اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

الشروط الغائبة


البدار الاول

Recommended Posts

حلم استعادة الخلافة‮ ‬يوجه معضلة‮ "‬الحداثة‮"‬

د. عمر رياض

 

 

 

2012-634816714766015917-601.jpg

إن التطورات المتلاحقة في الشارع السياسي الإسلامي والعربي،‮ ‬بعد الثورات العربية،‮ ‬يطرح أسئلة تشغل الباحثين في الشأن الإسلامي،‮ ‬خاصة بعدما تبين جليا استعداد معظم الأطياف والأحزاب الإسلامية لاشتراكها في عملية الديمقراطية وبناء الدولة‮.‬

 

‮ ‬حتي إن التيارات السلفية المتشددة منها بدأت تدخل وترضخ لشروط لعبة الديمقراطية،‮ ‬بعد أن ظلت لعقود طويلة رافضة لمفهوم الديمقراطية على أساس ديني أيديولوجي،‮ ‬وذلك لأن حكم الشعب قد يعني،‮ ‬من وجهة نظرهم،‮ ‬فكرة مناوئة لحكم الله على الأرض‮. ‬وفي مصر،‮ ‬على وجه التحديد،‮ ‬وذلك قبل صدور قرار المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب أخيرا‮ - ‬أظهرت نتائج الانتخابات فوز جبهتين إسلاميتين،‮ ‬هما حزب الحرية والعدالة،‮ ‬الممثل السياسي لجماعة الإخوان المسلمين،‮ ‬وحزب النور السلفي‮. ‬وإن كان هذان التياران يتنميان تاريخيا لفكرة إسلامية سلفية واحدة،‮ ‬نشأت في منتصف القرن التاسع عشر لمواجهة الاستعمار،‮ ‬والنداء لقيام إسلامي في شكل الدولة المرجوة،‮ ‬فقد نشأت خلافات نظرية حادة بين الاتجاهين،‮ ‬والتي يستمد فيها كل منهما مرجعيته من الماضي والتراث الإسلامي‮.‬

 

إن التطورات الجارية على الساحة السياسية في العالم العربي،‮ ‬وشغر الحركات الإسلامية للوضع السياسي،‮ ‬ودراسة مفهومها عن شكل الدولة،‮ ‬لا يتم فهمها بشكل جاد دون تحليل تاريخي لظاهرة الإسلامية أو الجامعة الإسلامية،‮ ‬التي بزغت في منتصف القرن التاسع عشر‮. ‬ذلك أن محاولة الفهم الأيديولوجي لهذه التيارات،‮ ‬دون النظر إلى السياق الزمني التاريخي،‮ ‬قد تدخلنا في متاهات نصوصية لا حصر لها،‮ ‬والتي قد لا تصل بنا إلى نتائج منطقية،‮ ‬خاصة لأن الفكر الإسلامي هذا قد تشتت في أطياف وألوان مختلفة على مر العقود الأخيرة‮. ‬وأصبحت هذه الحركات الإسلامية نفسها لا تتفق على مفهوم الدولة الإسلامية،‮ ‬وما يتعلق بها من مسائل مثل تطبيق الشريعة،‮ ‬والحريات العامة،‮ ‬ومشاركة المرأة والأقليات،‮ ‬وما إلى ذلك من أمور تختلف حولها المصطلحات والمفردات الدينية التي يستخدمها كل طرف‮.‬

ومن منطلق هذا التحليل السياقي،‮ ‬يمكن لنا أن نلقي الضوء على ما إذا كانت هذه النماذج التاريخية المتعلقة بشكل الدولة في هذا البناء الفكري للتيارات الإسلامية الحاضرة هي بالفعل حاضرة سياسيا،‮ ‬خاصة في المرحلة الحالية،‮ ‬وفي مراحل تطورها المختلفة عبر عشرات العقود السابقة،‮ ‬ومن ثم يمكننا الوصول إلى فهم منطقي لبرنامجها السياسي الحالي تجاه قضية شكل الدولة،‮ ‬والمبني على تطور فكري تنظيمي حركي معين‮.‬

 

‮ ‬وإن‮ ‬كان من الصعب في المرحلة الحالية أن نتوقع أو نخمن ما هي المحددات المستقبلية الحاكمة للسلوك السياسي الإسلامي الذي ستنتهجه هذه التيارات الإسلامية‮ - ‬كلاسيكيا كان أو إصلاحيا‮ - ‬فإن الذي يعينينا بالأساس هنا،‮ ‬في طي هذا البحث الوجير،‮ ‬هو التساؤل المحوري‮ - ‬الذي تردد ويتردد في سياقات تاريخية مختلفة‮ - ‬عن مفهوم وشكل الدولة الإسلامية التي صور لها رواد الحركة الإسلامية في عصر الاستعمار،‮ ‬والتي لربما هي التصورات الحالمة نفسها التي تريد حركات ما بعد الثورات العربية أن تنتهجها في ممارستها لوظائف الحكم‮. ‬والمستقبل في رأيي هو الحاكم في إجابة هذا السؤال المحير عما إذا كان لهذا النموذج معطيات سوف تحققه في واقع الدول العربية المعاصر،‮ ‬أم لا‮. ‬ولكن ما نلاحظه الآن هو أنه كلما زادت المشاركة الديمقراطية لهذه التيارات،‮ ‬زاد تشتتها في أطياف وألوان مختلفة،‮ ‬وقل توافقها مع بعضها بعضا‮. ‬وهذا يظهر جليا في الخلافات التي تظهر على الساحة السياسية بين الإخوان المسلمين والسلفيين من وقت لآخر،‮ ‬حتي تحت سقف قبة البرلمان‮.‬

 

الحركة السلفية‮ .. ‬الخطان الفكري والشعبي‮:‬

 

إن المدقق في تاريخ الفكرة السلفية المعاصرة ودعوتها لبناء إسلامي متكامل لشكل الدولة،‮ ‬يستطيع بكل سهولة أن يستخلص أنها حركة بدأت نشأتها في منتصف القرن التاسع عشر كظاهرة إصلاحية‮ "‬تقدمية إصلاحية‮"‬،‮ ‬تطمح إلى تحديث بعض المفاهيم الإسلامية بما يواجه تحديات تلك الفترة،‮ ‬والدعوة إلى بناء مجتمع إسلامي مثالي‮. ‬وقد نشأت هذه الأفكار على يد أمثال الفيلسوف جمال الدين الأفغاني،‮ ‬وتلميذه الشيخ محمد عبده وأتباعهما‮. ‬ومع تطور المشهد السياسي العالمي في بدايات القرن العشرين،‮ ‬وظهور حركات علمانية تدعو إلى حذو المنهج الغربي في بناء الدولة،‮ ‬والتي‮ ‬كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط الخلافة،‮ ‬زادت حدة الصراع بين هذه التيارات العلمانية والحركات السلفية،‮ ‬إلى أن تحولت الأخري هذه إلى نطاق أكثر ضيقا في بعض الأحيان،‮ ‬تلجأ فيه إلى تفسيرات تقليدية لمفهوم الدولة والخلافة،‮ ‬بعيدا عن المفاهيم المستحدثة في بناء الدولة المعاصرة‮. ‬

 

وفي العصر نفسه،‮ ‬نشأت تيارات سلفية أخري،‮ ‬يمكن تسميتها‮ "‬بوبيولست‮ ‬populist" تخاطب مشاعر وأوتار الشعوب الإسلامية بلغة أكثر سلاسة،‮ ‬أمثال جمعية أنصار السنة المحمدية،‮ ‬التي أسست على يد الشيخ الأزهري محمد حامد الفقي في عام‮ ‬1927، والمطبعة السلفية،‮ ‬ومجلة الفتح على يد الشيخ محب الدين الخطيب في منتصف العشرينيات‮. ‬وحيث إن‮ ‬الشيخ رشيد رضا ظل يمثل الخط الفكري في الحركة السلفية قرابة‮ ‬37 سنة،‮ ‬من خلال مجلته الشهيرة‮ "‬المنار‮"‬،‮ ‬فلنا أن نقول إن أفكاره عن الدولة والخلافة بعد سقوطها تعد هي مفترق الطرق الذي انبثقت عنه تطورات الفكر الإسلامي الديني والسياسي المتلاحقة فيما بعد‮. ‬فقد انبثقت عن أفكاره مثلا حركة الإخوان المسلمين،‮ ‬وممثليها فيما بعد‮. ‬أما حزب النور السلفي،‮ ‬فيبني بعض أفكاره على الإرث الديني للخط السلفي الشعبي المشار إليه آنفا‮. ‬وفي فترة بزوغ‮ "‬الإسلام السياسي‮" ‬خلال السبعينيات،‮ ‬نجد أن هذه التيارات قد اندمج بعضها ببعض‮ -‬حتي مع الحركات الوهابية‮- ‬وتم الخلط بينها في كثير من الأحيان،‮ ‬وأصبحت من ذلك الوقت تتحرك سريعا وبقوة داخل الأنسجة المجتمعية المختلفة‮. ‬لكن الثورات العربية ودخول هذه التيارات في ساحة السياسة أظهرا الخلافات الجوهرية بينها‮.‬

 

ومهما اختلف جوهر هذه الأطروحات لدي هذه الجماعات لمفهوم الدولة،‮ ‬فكل منها يشير إلى نموذج تاريخي معين،‮ ‬قديما كان أو حديثا،‮ ‬وإلى ما يراها قيما إسلامية قد اندثرت‮. ‬فنجد منها من يشير إلى دولة المدينة النبوية الأولي وعصور الخلافة الرشيدة كفكرة نوستالجية تعيد الحنين للعصر الإسلامي الذهبي الأول،‮ ‬ومنها من يبحث عن نموذج أو تجربة جمعت بين نظام علماني-إسلامي معتدل،‮ ‬مشيرين إلى التجربة التركية الأخيرة،‮ ‬أو حتي الإشارة إلى النماذج الأوروبية للأحزاب الديمقراطية المسيحية،‮ ‬والتي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية كمنافس قوي في الشارع السياسي الأوروبي،‮ ‬خاصة بعد هزيمة النازية والفاشية‮.‬

 

مفهوم الدولة الإسلامية قبل سقوط الخلافة‮:‬

 

رسم رواد الحركة الإسلامية الأولي،‮ ‬متمثلة في كل من الأفغاني وعبده ورشيد رضا،‮ ‬تصورا معينا لنموذج الدولة الإسلامية لمواجهة التحدي الكبير المنوط بتدهور العالم الإسلامي وحضارته وفكره،‮ ‬والذي كان يرزح تحت وطأة الاستعمار،‮ ‬مما أدي إلى ضمور الوعي الإسلامي بتاريخه في تصورهم‮. ‬وقد اختاروا طريقا وسطا للإصلاح،‮ ‬بعد أن كان العالم الإسلامي يحار بين فريقين،‮ ‬الأول يدعو إلى الجمود وحرفية النص،‮ ‬والآخر يدعو إلى التغريب والتحلل من كل ما هو موروث‮. ‬أما عن شكل الدولة،‮ ‬فقد اختار الأفغاني طريق الإصلاح فيها،‮ ‬من خلال السياسة،‮ ‬وإثارة المسلمين وتحريضهم على الثورة ضد الاستعمار والأمراء المسلمين الفاسدين،‮ ‬وذلك عن طريق إنشاء خلايا وجمعيات سرية،‮ ‬تهدف إلى الإطاحة بالسلاطين والأمراء المسلمين المستبدين‮. ‬وإلى جانب انضمامه للمحفل الماسوني في مصر،‮ ‬فقد أسس لذلك السبب‮ "‬جمعية العروة الوثقي‮" ‬السرية،‮ ‬وهو الاسم نفسه الذي أطلقه على مجلته الشهيرة في باريس عام‮ .‬1884

 

وهذه النزعة الثورية لدي الأفغاني كانت لربما السبب في تورطه واتهامه بقتل شاه إيران ناصر الدين،‮ ‬كما أنه أوعز من قبل إلى تلميذه،‮ ‬محمد عبده،‮ ‬بقتل الخديو إسماعيل عند مروره على كوبري قصر النيل ذات مرة‮. ‬وقد ظل الأفغاني يدعو إلى الوحدة الإسلامية،‮ ‬ويحث المسلمين على استعادة أمجاد الإسلام الضائعة‮. ‬وركز الأفغاني في دعوته على محورين أساسيين،‮ ‬هما أن ما يعوق التقدم في إنشاء مجتمع إسلامي رصين هو أن جهال المسلمين قد أضاعوا الإسلام الصحيح بجهلهم لجوهر الدين،‮ ‬وأن حكام المسلمين قد خانوا شعوبهم بالتواطؤ مع المستعمرين،‮ ‬وتغليب مصالحهم وأهوائهم الشخصية،‮ ‬مما أدي إلى انهيار مباديء الدولة التي دعا إليها الإسلام‮.‬

 

ويري الأفغاني أن الدول لا تتكون ولا يخلص لها السلطان إلا بقوتين‮: ‬قوة الجنس التي تدعو للاتحاد لمغالبة من سواهم من ذوي الأجناس الأخري،‮ ‬في حالة الضرورة،‮ ‬وقوة الدين الذي يقوم مقام الجنسية في جمع الكلمة،‮ ‬ويكون أكثر فاعلية من العصبية الجنسية في لم الشمل وتوحيد الصف‮. ‬ويضرب الأفغاني المثل بالعرب قبل الإسلام،‮ ‬وأنهم أمة كانت معروفة بالبأس والغلبة والقوة الجنسية،‮ ‬لكن لم يتيسر لهم تكوين أي دولة تجمع سلطان الكل تحت سقف واحد،‮ ‬وذلك لأن قوة الجنس قد‮ ‬غلبت على كل قبيلة،‮ ‬ولم ينتفع العرب من تلك القوة الجنسية‮. ‬ولما جاء الإسلام والأمة العربية على هذا الحال،‮ ‬حلت قوة الدين مقام قوة العصبية الجنسية،‮ ‬فوحد الإسلام كلمتهم تحت سلطان دولة‮. ‬ويضيف الأفغاني أن العرب ازدادوا إقداما وبأسا بالإسلام،‮ ‬ودام ملكهم في اتساع في دور الخلفاء الراشدين،‮ ‬فالأمويين،‮ ‬فالعباسيين،‮ ‬إلى عصر الرشيد والمأمون،‮ ‬إلى أن انحطت أواصر هذه المنعة والعزة الدينية،‮ ‬وبقيت بعدها رسوما وألقابا لتلك الخلافة‮. ‬ذلك أن المسلمين ومن يعني بشئون دولتهم قد تركوا حكمة الدين،‮ ‬وفشا الجهل بين الخلفاء،‮ ‬وقد زاد في ضعف الخلفاء بلية الإكثار من الأغراب والمماليك،‮ ‬وفقدهم قوة الدين مع قوة الجنس‮(1).

 

وبهذا،‮ ‬يعد الأفغاني من أول دعاة الإصلاح عن طريق الثورة،‮ ‬وإزالة الحكم الجائر بالقوة،‮ ‬الذي يحول بين إقامة حكومة مبنية على قواعد الإسلام الصحيح،‮ ‬من وجهة نظره‮. ‬وهذا ينبئ بإيمانه وثقته بالجماهير كصاحبة مصلحة أكيدة في تلك الثورة،‮ ‬وفي أخذ حريتها الحقيقية،‮ ‬التي لا يهبها المسيطر والحاكم عن طيب خاطر‮(2). وبهذا،‮ ‬فقد عاش الأفغاني يحلم بإقامة دولة إسلامية مثالية في بلد إسلامي مستقل مهيأ لذلك،‮ ‬بعيدا عن البلاد التي تحت وطأة الاستعمار،‮ ‬والتي يجب أن تلتزم بالقرآن والسنة والشوري في الحكم،‮ ‬ممزوجة بالمبادئ الدستورية المتعارف عليها‮.‬

 

ومع ظهور جمال الدين الأفغاني على الساحة المصرية،‮ ‬نجد الشيخ محمد عبده يتبني أفكاره،‮ ‬ويتتبع ظله حتي في المنفي في باريس‮. ‬لكن سرعان ما انشق الشيخ محمد عبده عن تلك الفكرة الثورية في إرساء دعائم الدولة،‮ ‬واللجوء إلى أفكار إصلاحية بديلة في مجال التربية،‮ ‬بعيدا عن السياسة والثورة والدم‮. ‬وفي حديث مع الأفغاني،‮ ‬في منفاهما في باريس،‮ ‬يحاول الشيخ محمد عبده إقناع أستاذه بالتخلي عن طريق السياسة،‮ ‬وأن يوجه قدراته في توجيه وتربية النشء،‮ ‬الذي من دوره سيكون مخولا لحمل مشعل الإصلاح،‮ ‬ولكن الأفغاني كان يلومه قائلا‮: "‬إنك لمثبط‮". ‬وفي عام‮ ‬1899? يكتب محمد عبده مقالته الشهيرة‮ "‬إنما ينهض بالشرق مستبد عادل‮"‬،‮ ‬والذي أوضح فيه أن الشرق في حاجة إلى مستبد‮ "‬يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة،‮ ‬إن لم يحملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة،‮ ‬عادل لا يخطو خطوة إلا ونظرته الأولي إلى شعبه الذي يحكمه‮". ‬وهذا المستبد العادل قادر على أن يصنع في شعبه في خمس عشرة سنة ما لا يصنعه العقل وحده في خمسة عشر قرنا من الزمان(3).

 

ويرفض الشيخ محمد عبده فكرة قيام سلطة دينية على أساس إسلامي في المجتمع،‮ ‬معللا أنه‮ "‬ليس في الإسلام سلطة دينية سوي سلطة الموعظة الحسنة،‮ ‬والدعوة إلى الخير،‮ ‬والتنفير من الشر،‮ ‬وهي سلطة خولها الله لأدني المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم،‮ ‬كما خولها لأعلاهم يتناول بها أدناهم‮"(4). فالإسلام،‮ ‬من وجهة نظر الشيخ محمد عبده،‮ ‬يدعو إلى إرساء حكم مدني،‮ ‬وذلك لأنه قد جاء‮ ‬ليقلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها‮. ‬وقد‮ "‬هدم الإسلام بناء تلك السلطة،‮ ‬ومحا أثرها،‮ ‬حتي لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم،‮ ‬ولم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد،‮ ‬ولا سيطرة على إيمانه‮. ‬على أن رسول الله‮ - ‬صلي الله عليه وسلم‮ - ‬كان مبلغا ومذكرا،‮ ‬لا مهيمنا ولا مسيطرا،‮ ‬وليس لمسلم‮ -‬مهما علا كعبه في الإسلام‮- ‬على آخر‮ -‬مهما انحطت منزلته فيه‮- ‬إلا حق النصيحة والإرشاد‮." ‬وعلى هذا،‮ ‬فلم يعرف المسلمون‮ -‬على حد تعبيره‮- ‬في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت عند الأمم المسيحية والسلطة البابوية عليها‮. ‬وهذا الحس المدني للشيخ محمد عبده لم يكن بمعزل عن الشرع‮. ‬فالإسلام عنده‮ "‬دين وشرع،‮ ‬فقد وضع حدودا،‮ ‬ورسم حقوقا،‮ ‬فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام،‮ ‬إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود،‮ ‬وتنفيذ حكم القاضي بالحق،‮ ‬وصون نظام الجماعة‮. ‬وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضي في عدد كثير،‮ ‬فلا بد أن تكون في واحد،‮ ‬وهو السلطان،‮ ‬أو الخليفة،‮ ‬والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه،‮ ‬وهي التي تخلعه،‮ ‬متي رأت ذلك من مصلحتها،‮ ‬فهو حاكم مدني من جميع الوجوه‮"(5).

 

وفي حياة الشيخ محمد عبده وأثناء توليه منصب مفتي الديار المصرية،‮ ‬هاجر الشيخ رشيد رضا إلى القاهرة في أواخر عام‮ ‬1897 ليؤسس مجلة المنار،‮ ‬التي كان يؤمن بقدرتها على أن تخلف منهج‮ "‬العروة الوثقي‮" ‬في الإصلاح‮. ‬وفي تلك الفترة،‮ ‬كان رضا يعبر عن عبده وأفكارة الإصلاحية التربوية دون التعرص للسياسة بشكل كبير‮. ‬وما إن انفصل رضا عن أستاذه،‮ ‬بوفاة الأخير في عام‮ ‬1905? إلا وبرزت معالم أخري في فكره،‮ ‬دفعته للانخراط في السياسة،‮ ‬ورسم معالم الدولة المرجوة من وجهة نظر إسلامية‮. ‬حتي قبل سقوط الخلافة الإسلامية،‮ ‬حاول رشيد رضا رسم نموذج لتلك الدولة والجامعة الإسلامية،‮ ‬من منطلق الدولة العثمانية،‮ ‬ولكن على أساس إسلامي دستوري‮. ‬وبدأ رشيد رضا يفعل هذه الفكرة من خلال نقده النظام السياسي في الدولة العثمانية،‮ ‬والدعوة إلى إصلاحها،‮ ‬مع إنشائه جمعيات سرية مع الرعايا العثمانيين في القاهرة‮(6).

 

الحرب العالمية الأولي وسقوط الخلافة‮:‬

 

وبعد نهاية الحرب العالمية الأولي،‮ ‬بدأ رضا العمل على إنشاء نموذج إسلامي في وطنه الأم سوريا،‮ ‬وقد انتخب رئيسا للمؤتمر السوري للعمل على هذا المشروع‮. ‬لكن سقوط الخلافة قد أصاب شرخا عميقا في الفكر الإسلامي السياسي،‮ ‬مما دعا رضا إلى العودة لمناقشة قضية الخلافة الضائعة في رسالة له،‮ ‬أكد فيها ضرورة تأسيس الخلافة الإسلامية من جديد على أساس إسلامي أصيل،‮ ‬واجتهاد عصري لفهم القرآن والسنة،‮ ‬وقائمة على الشوري والدستور‮. ‬أما بالنسبة للخلافة العثمانية،‮ ‬فقد كانت‮ - ‬من وجهة نظره‮ - ‬ما هي إلا‮ "‬خلافة ضرورة‮" ‬إلى أن يحين الوقت لتأسيس الخلافة العربية القرشية الإسلامية من جديد‮. ‬ودعا رضا العلماء والقادة المسلمين إلى ترشيح الأنسب والمؤهل لهذا المنصب‮. ‬ولأن هذه الخلافة مؤسسة،‮ ‬وليست منصبا مخولا،‮ ‬فقد اقترح رضا إنشاء عدة أجهزة سياسية معنية،‮ ‬تعاون الخليفة على الحكم على المنهج الإسلامي الصحيح‮(7).

 

وفي فترة العشرينيات هذه بالتحديد،‮ ‬بدأت تظهر تيارات سلفية دينية دعوية وسياسية،‮ ‬من أهمها حركة الإخوان المسلمين‮. ‬وقد تأثر البنا بمنهج المنار والفتح لعلاقته الوطيدة بكل من رشيد رضا ومحب الدين الخطيب‮. ‬ومن المعروف تاريخيا أن الشيخ عبد الرحمن الساعاتي،‮ ‬والد مؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا،‮ ‬كان من أصدقاء الشيخ رشيد رضا،‮ ‬وأن حسن البنا نفسه كان يتردد على دروس الشيخ رشيد رضا في القاهرة،‮ ‬أثناء دراسته في مدرسة دار العلوم،‮ ‬وتأثر بفكره ونشاطه السياسي،‮ ‬مما جعل عائلة الشيخ رشيد رضا تدعو حسن البنا إلى استكمال طباعة الأعداد الأخيرة من مجلة المنار في عام‮.‬1940 وحتي قبل إنشاء حركة الإخوان المسلمين،‮ ‬كان حسن البنا يسهم بمقالات سياسية ودينية في مجلة الفتح المذكورة آنفا‮.

ومع أن دعوة حسن البنا هذه بدأت دعوية،‮ ‬فلا نستطيع أن نقول إنها كانت بمعزل عن وضع العالم الإسلامي السياسي،‮ ‬خاصة التصدع الذي حصل بعد انهيار دولة الخلافة في تركيا،‮ ‬وامتداد حركات التغريب في مصر والعالم الإسلامي،‮ ‬إلى جانب انتشار حركات التنصير في المجتمعات الإسلامية‮. ‬إلى جانب هذا،‮ ‬فقد نشأت معظم الحركات الإسلامية التي تترك أثرا كبيرا في المشهد السياسي في وقتنا الحالي تقريبا في الفترة نفسها‮. ‬لكن ما ميز جماعة الإخوان المسلمين هي أن مؤسسها بدأ يدعو إلى ما رآه مفهوما شاملا للإسلام،‮ ‬وأن الإسلام عقيدة وعبادة،‮ ‬ودين ودولة،‮ ‬ومصحف وسيف‮. ‬

 

وسرعان ما أحدثت الجماعة طفرة في تكوينها،‮ ‬بتحولها من مجرد جماعة وعظ دعوية إلى حركة منظمة،‮ ‬تؤكد العمل السياسي،‮ ‬والتغيير في الواقع المسلم‮. ‬وقد رسم البنا ملامح الجماعة الدينية والفكرية،‮ ‬بل والسياسية والاقتصادية،‮ ‬في كتاباته وخطبه،‮ ‬على أنها دعوة سنية سلفية تحمل حقائق الصوفية،‮ ‬وأنها جماعة رياضية تعني بالجسم،‮ ‬لأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف‮. ‬وإلى جانب هذا،‮ ‬فهي رابطة علمية ثقافية،‮ ‬وشركة اقتصادية،‮ ‬وهيئة سياسية،‮ ‬تطالب بإصلاح الحكم في الداخل،‮ ‬والنظر في صلة الأمة بالأمم الأخري في الخارج‮. ‬ورأي البنا أن الحكم وبناء الدولة،‮ ‬كما ورد في الكتب الفقهية،‮ ‬هو من الأصول والعقائد،‮ ‬وليس من الفروع‮. ‬وبعد سنوات وكردة فعل مباشرة لسقوط الخلافة،‮ ‬وربما‮ ‬غير مباشرة لدعوة أمثال الشيخ على عبد الرازق إلى أن الخلافة الإسلامية خلافة روحية وليست دنيوية،‮ ‬أوضح البنا أن الخلافة هي من أصول الدين،‮ ‬وأن الإخوان يعتقدون عقيدة راسخة أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية،‮ ‬ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام،‮ ‬وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها،‮ ‬وأن الخلافة مناط كثير من الأحكام في دين الله‮(8).

 

وقد أشار في ذلك الصدد إلى منهج الصحابة،‮ ‬ونظرهم في شأن الخلافة على النظر في تجهيز النبي‮ - ‬صلي الله عليه وسلم‮ - ‬ودفنه‮. ‬لذلك،‮ ‬نجده يؤكد منهج الإخوان في التفكر في فهم فكرة الخلافة،‮ ‬والعمل على إعادتها في رأس مناهجهم‮. ‬وهم مع هذا،‮ ‬يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها،‮ ‬وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات سياسية وتربوية واقتصادية وروحية أخري‮. ‬ويؤكد البنا أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام،‮ ‬بل مستمدة من نظام الإسلام‮(9).

 

ومع تحول الإخوان المسلمين إلى حلبة الصراع السياسي،‮ ‬قبيل وفاة مؤسسها وبعدها،‮ ‬نلاحظ التغير الجذري في الفكر السياسي حول شكل الدولة،‮ ‬وذلك بعد دخول الشيخ سيد قطب في الجدل القائم بين القوي السياسية الليبرالية والإسلامية‮. ‬وقد أصبحت أفكار قطب هي المرجعية العليا والأيقونة الكبري التي شكلت،‮ ‬وتشكل،‮ ‬مسار الإسلام السياسي العربي،‮ ‬وذلك من خلال تقسيمه الوجود البشري إلى إسلامي وجاهلي،‮ ‬وأن الجاهلية الحاضرة هي أشد وأظلم وطأ من الجاهلية في عصر ما قبل النبوة‮. ‬حتي‮ ‬الفنون والثقافات والفلسفات والشرائع،‮ ‬التي أضفي عليها بعض المنظرين لفظة‮ "‬إسلامية‮"‬،‮ ‬ما هي إلا من صنع الجاهلية‮(01). وكل مجتمع أو دولة لا تخضع لعبودية وحاكمية الله وحده،‮ ‬في التصور العقدي والتعبدي والقانوني،‮ ‬يجب أن توضع تحت طي تلك الجاهلية،‮ ‬بما في ذلك المجتمعات الشيوعية،‮ ‬والرأسمالية،‮ ‬والوثنية،‮ ‬حتي اليهودية،‮ ‬والنصرانية في أرجاء الأرض جميعا‮(‬11). وللمسلم الأخذ بالعلوم البحتة التطبيقية عن الأمم الأخري في حياته العملية،‮ ‬لكن‮ ‬يحب أن يكون هذا بعيدا عن الأخذ بمعتقدات وفلسفات وتفسيرات الآخر الميتافيزيقية التي تتعلق بوجود الله والعالم الغيبي‮.

 

‬ويختلف مجتمع الإيمان والعبودية لله هذا عن‮ ‬المجتمعات الأخري في أنه يستمد أنظمته وشرائعه من الله،‮ ‬وليس من المعابد،‮ ‬والكهنة،‮ ‬والسنة،‮ ‬والسحرة،‮ ‬والشيوخ،‮ ‬أو حتي من هيئات مدنية‮ "‬علمانية‮" ‬تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى شريعة الله‮. ‬وهنا،‮ ‬يختلف قطب مع الإسلاميين الأوائل في رأيه،‮ - ‬حتي مع البنا الذي كان يتحدث عن الديمقراطية وبناء الدولة،‮ ‬على أساس دستوري‮ - ‬بأن أي حاكمية عليا باسم‮ (‬الشعب‮) ‬أو باسم‮ (‬الحزب‮) ‬أو باسم كائن من كان‮) ‬لا‮ ‬مكان لها في المنظومة الإسلامية للدولة‮.‬

ومع صعود التيار الإسلامي السياسي،‮ ‬بمختلف اتجاهاته من جهادية وسلمية في فترة السبعينيات،‮ ‬بدأت فكرة الحاكمية في الدولة تتبلور من جديد،‮ ‬وبدأت هذه الحركات تغلب حاكمية الشريعة على حاكمية الدساتير الوضعية،‮ ‬وأن الولاء والبراء هو الفيصل المحدد لعلاقة المسلم بغير المسلم في الدولة الإسلامية،‮ ‬وليست مفاهيم المواطنة‮. ‬وتظهر في الفترة نفسها أيضا معالم السلفية التقليدية التي رفضت المشاركة في الإطار السياسي للدولة،‮ ‬وبدأت تنخرط في مناقشات دينية حول العبادات والطقوس،‮ ‬كما أنها نهجت في كثير من الأحيان منهج المهادنة مع ولي الأمر،‮ ‬حتي وإن كان ظالما،‮ ‬مما أدي إلى الفرقة والصدام مع أفكار السلفية الجهادية‮. ‬وظهرت مبارازات أيديولوجية بين الفريقين،‮ ‬فالسلفية الجهادية تطلق على السلفية التقليدية لقب‮ "‬المرجئة‮". ‬وبالعكس،‮ ‬تطلق التقليدية على الجهادية لفظ‮ "‬خوارج‮" ‬هذا العصر‮. ‬أما عن الإخوان،‮ ‬فهم‮ - ‬من وجهة نظر كلا الطرفين‮ - ‬يحاولون أسلمة أنظمة ديمقراطية فاسدة مما قد يؤدي إلى تحريف الإسلام‮. ‬

 

ومع هذا،‮ ‬فقد ظل فريق من المفكرين الإسلاميين‮ - ‬من أمثال راشد الغنوشي،‮ ‬والشيخ يوسف القرضاوي،‮ ‬ومحمد عمارة،‮ ‬وفهمي هويدي،‮ ‬وحسن الترابي،‮ ‬وغيرهم‮ - ‬ينظرون لفكرة الدولة الإسلامية على الخط نفسه الذي رسمه الأفغاني وعبده ورضا والبنا،‮ ‬منتقدين في بعض الأحيان النهج العنفوي الذي رسمه سيد قطب،‮ ‬ومن بعده الحركات الإسلامية الجهادية‮. ‬وتظل تؤكد تلك النظريات النخبوية في الحركة الإسلامية المعاصرة أن السلطة في الإسلام ضرورة اجتماعية،‮ ‬مستدلين بإجماع عمل الأمة على ذلك،‮ ‬وأن صحيفة المدينة هي اللبنة والنموذج الأول لبناء دستور إسلامي،‮ ‬يوفق بين حقوق وواجبات أطياف مجتمع المدينة الدينية،‮ ‬تحت مظلة الدين الجديد‮.‬

 

وماذا بعد الثورات العربية، في سنوات ما قبل الثورات العربية،‮ ‬نلاحظ أن مسألة الخلافة وإعادة مفهوم الإمامة العامة تكاد تكون خافتة في أدبيات الإسلام السياسي،‮ ‬خاصة الإخوانية منها،‮ ‬إلا في بعض الخطب الرنانة،‮ ‬أو الأحاديث العامة،‮ ‬بلا أي تنظير سياسي‮. ‬وأصبحت تلك الحركات السياسية تصب اهتمامها الأكبر إلى تكوين مشاريع قطرية في كل بلد على حدة،‮ ‬مع إسقاط شبه تام للبعد الخارجي لتلك المسألة‮. ‬ونجد أن خطابات قادة الإخوان،‮ ‬على وجه التحديد في سنوات ما قبل الثورات،‮ ‬تمثل أطروحات حزبية،‮ ‬بعيدا عن النظرة الشمولية التي انتهجتها الجماعة في بداية حياتها السياسية على الأقل،‮ ‬منخرطة أكثر في طرح مبادارات إصلاح سياسي،‮ ‬مثلها مثل أي حزب من الأحزاب الوطنية المتعددة،‮ ‬دون تطرق كبير لمفهوم الخلافة‮. ‬وبهذا،‮ ‬تخلت الجماعة في هذه السنوات عن الطرح الأول الذي تحدث فيه مؤسس الجماعة عن إصلاح وبناء الفرد،‮ ‬ثم بناء الأسرة،‮ ‬وبناء المجتمع،‮ ‬فالحكومة الإسلامية،‮ ‬ثم الدولة الإسلامية،‮ ‬بعدها الخلافة مكملة الغاية بأستاذية العالم‮. ‬وكبديل عن هذا،‮ ‬ظل‮ ‬يتردد في أوساط قادة ورموز جيل‮ "‬الوسط‮" ‬من الجماعة،‮ ‬حتي قبل الثورة،‮ ‬من أمثال الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح،‮ ‬أن بغية الإخوان يجب أن تنصب على قيام‮ "‬دولة ديمقراطية‮ ‬ذات المرجعية الإسلامية‮". ‬حتي انتهي الأمر إلى مناداة بعض هؤلاء المنتمين إلى جيل‮ "‬الوسط‮" ‬بقبول فكرة تولي‮ ‬غير المسلم للرئاسة،‮ ‬إن قضت بذلك صناديق الانتخاب‮(21).

 

وما إن اشتعل فتيل الثورة،‮ ‬وجاءت الانتخابات في تونس ومصر،‮ ‬على وجه التحديد،‮ ‬بمشاركة إسلامية سياسية‮ ‬غالبة،‮ ‬إلا وبدأ النقاش عن الخلافة يأخذ حيزا من الاهتمام لدي هذه الأوساط المعنية بالشأن الإسلامي‮. ‬وتفجرت مع هذه المناقشات جدليات حامية،‮ ‬في بعض الأحيان،‮ ‬بين الحركات الإسلامية الممثلة للأغلبية،‮ ‬والأطياف العلمانية والليبرالية،‮ ‬التي ترفض شكل الدولة الدينية شكلا وموضوعا،‮ ‬وأن مسألة استرجاع وإعادة الخلافة ما هي إلا ضرب من الوهم أو الخيال‮. ‬ففي تونس،‮ ‬أثار حديث الأمين العام لحركة النهضة،‮ ‬حمادي الجبالي،‮ ‬ورئيس وزراء تونس الحالي،‮ ‬عن الخلافة،‮ ‬قائلا‮: ‬إن أمام التونسيين لحظة تاريخية لإقامة الخلافة السادسة الراشدة،‮ ‬حفيظة العلمانيين الذين يؤمنون بأن قيم الحداثة تتهدد بظهور مثل هذه الأطروحات‮.‬

 

وسرعان ما تراجعت النهضة عن هذا كله،‮ ‬معللة كلام الجبالي بأنه كان يقصد إقامة حكومة رشيدة شفافة بعيدة عن الفساد،‮ ‬ولم يكن يقصد إقامة دولة خلافة دينية،‮ ‬وأن النهضة ستظل حركة مدنية بصبغة إسلامية‮. ‬وقد احتدم الصراع أكثر وأكثر،‮ ‬حينما رفع بعض الطلاب السلفيين في تونس راية سوداء،‮ ‬ترمز إلى الخلافة الإسلامية فوق مبني كلية الآداب بجامعة منوبة،‮ ‬وأنزلوا علم بلادهم،‮ ‬حتي اشتبك بعضهم مع طلاب آخرين بالأسلحة البيضاء‮.‬

 

وبعد عدة أشهر من الثورة المصرية،‮ ‬صرح المرشد العام للإخوان المسلمين بأن الجماعة قد اقتربت بالفعل من الغاية العظمي للبنا بإقامة الخلافة،‮ ‬قائلا‮: "‬إن الجماعة أصبحت قريبة من تحقيق‮ ‬غايتها العظمي التي حددها مؤسسها الإمام حسن البنا،‮ ‬وذلك بإقامة نظام حكم عادل رشيد بكل مؤسساته ومقوماته،‮ ‬يتضمن حكومة،‮ ‬ثم خلافة راشدة،‮ ‬وأستاذية العالم‮". ‬وأضاف بديع‮: "‬حينما بدأت دعوة الإخوان تحاول إرشاد الأمة وإيقاظها من جديد،‮ ‬لتردها إلى مكانتها ورسالتها،‮ ‬بعد طول تأخر وركود،‮ ‬حدد الإمام‮ (‬البنا‮) ‬في رسالة المؤتمر السادس‮ ‬غايتين لجماعته‮: ‬الأولي قريبة،‮ ‬تظهر ثمرتها من أول يوم ينضم فيه الفرد إلى الجماعة،‮ ‬والثانية بعيدة لابد فيها من توظيف الأحداث،‮ ‬وانتظار الزمن،‮ ‬وحسن الإعداد،‮ ‬وسبق التكوين،‮ ‬وتشمل الإصلاح الشامل الكامل لكل شئون الحياة‮"(31).

 

إن ما سبق عرضه من أفكار وجيزة لمفهوم الدولة والخلافة،‮ ‬قبل وما بعد الثورات العربية،‮ ‬يبين لنا الخلفية التاريخية للمرجعيات التي تستقي منها الحركات الإسلامية المعاصرة،‮ ‬بعد تلك الثورات،‮ ‬أفكارها عن شكل ومضمون الدولة الإسلامية‮. ‬لذا،‮ ‬نجد تأرجحا كبيرا في الخط السياسي المتبع‮ ‬في هذه الاتجاهات الحاضرة ما بين التشدد والاعتدال‮. ‬ولنا أن نلاحظ أن ثمة ثلاثة تيارات إسلامية رئيسية تشغل الحيز السياسي الإسلامي،‮ ‬بعد الثورات العربية،‮ ‬هي‮: ‬حركة الإخوان المسلمين‮ ‬في مصر‮ (‬ونظيرها‮ ‬من التيار الإسلامي في تونس‮)‬،‮ ‬وهي الحركة الأكثر تنظيما وممارسة للسياسة‮. ‬ونجد أن ممثلي هذا التيار‮ ‬يحاولون إعادة الخطاب والدعوة التي أرسي قواعدها البنا،‮ ‬ومن قبله الأفغاني وعبده ورضا‮. ‬لكن السؤال الملح هو‮: ‬إذا كانت هذه التيارات ستدخل حيز الواقع السياسي،‮ ‬وتقبل الوقوف عند عتبة الدولة المدنية،‮ ‬والتوفيق بين مفاهيم تلك الدولة الحديثة،‮ ‬وما يتصل بها من المفاهيم الحزبية والتباري السياسي من جهة،‮ ‬وبين المفاهيم الإسلامية حول شكل الخلافة،‮ ‬والتي ترددت في الأوساط السلفية الأولي،‮ ‬خاصة بعد فوز مرشح حزب الحرية والعدالة محمد مرسي في انتخابات الرئاسة المصرية‮.‬

أما الخط الجهادي،‮ ‬وهو الخط الذي اختار الصدام مع السلطة في العقود الماضية،‮ ‬فقد خفت صوته بعد الثورات العربية،‮ ‬لكنه لا‮ ‬يزال يحتفظ بالموروث القطبي،‮ ‬وتأكيد استرجاع نموذج دولة الخلافة،‮ ‬أو تأسيس دولة الخلافة الثانية في الأزمنة الحديثة للحفاظ على حاكمية الله وشريعته‮. ‬وهذا ما أكده،‮ ‬على سبيل المثال،‮ ‬عضو شوري الجماعة الإسلامية،‮ ‬عبود الزمر،‮ ‬عقب خروجه من السجن،‮ ‬من أن مشروع الدولة الإسلامية لا‮ ‬يزال قائما ولم يتغير،‮ ‬وأنه لا‮ ‬يزال يحلم بهذه الدولة،‮ ‬على‮ ‬غرار دولة الخلفاء الراشدين العادلة،‮ ‬في ظل كل التغيرات التي حدثت،‮ ‬سواء في ظل العمل المسلح،‮ ‬أو تركه‮. ‬ويبقي المشروع الثابت هو العمل على إقامتها،‮ ‬حيث إن النموذج الإسلامي هو أرقي من الليبرالي والديمقراطي‮. ‬وإذا كانوا يرون أن الليبرالية عقيدة تؤسس دولة،‮ ‬فإن الإسلام يقيم دولة أكبر وأقوي من الدولة الشيوعية،‮ ‬وأقوي من الدولة الليبرالية‮(41). لكن المفاجأة الكبري في كل هذا،‮ ‬فهي ظهور السلفية التقليدية كطرف إسلامي منافس في الصراع على السلطة البرلمانية والتشريعية،‮ ‬بعد عقود طويلة من نبذ فكرة المشاركة الديمقراطية على أنها فكرة كفرية‮. ‬ولقلة خبرة هذا التيار الأخير في مجال السياسة،‮ ‬نجده متخبطا في إصدار قراراته،‮ ‬ما بين عضو برلماني سابق يقف تحت قبة البرلمان لرفع الأذان،‮ ‬وعدم السماح بظهور صور المرشحات في الدعاية الانتخابية،‮ ‬والاستعاضة بذلك بوضع صورة لوردة،‮ ‬ثم الرجوع عن هذا‮.‬

 

وقد يصح لنا أن نستخلص من هذا كله تشبيه تلك الصراعات الفكرية عند هذه الحركات الإسلامية‮ ‬في بناء الدولة الإسلامية‮ - ‬لنقرب الصورة للأذهان‮ - ‬مثل عائلة فيها مجموع من الأبناء،‮ ‬ورثت عن رب أسرتها منزلا،‮ ‬يريد كل منها إصلاحه وتجديده على طريقته،‮ ‬فيقول قائل منهم‮: ‬علينا هدم أواصر البيت وبناؤه من جديد،‮ ‬وذلك لعدم صلاحيته،‮ ‬وهذا يمثل التيار الرايكالي الذي يريد بناء مجتمع إسلامي،‮ ‬بعد هدم المجتمع الموجود والمبني على أسس‮ ‬غير إسلامية،‮ ‬فيرد آخر‮: ‬يجب أن نبقي على بعض الجدران والنوافذ والأبواب التي تصلح للاستخدام بعض تعضيدها ببعض الأساسات،‮ ‬وإعطائها لونا مناسبا آخر،‮ ‬وهذا يمثل التيار الذي يحاول أن يكون وسطيا،‮ ‬والذي يبحث عن تفسيرات لمفاهيم الديمقراطية والدستور في مصادر الإسلام،‮ ‬ويقول إنها في الأساس جاءت من الإسلام ومبادئ الشوري وإعانة الخليفة إن أصاب،‮ ‬أو تقويمه إن أخطأ‮. ‬وهكذا،‮ ‬يظل الإشكال الراهن في مسألة القدرة على التوافق أو عدم التوافق مع الأنظمة الحديثة هو التحدي الأكبر لكل هذه التيارات،‮ ‬وكيف ستقوم هذه الحركات بين الجمع بين الإسلام والحداثة‮. ‬وهي المشكلة نفسها التي واجهت السلفيين الأوائل،‮ ‬لكن في سياق استعماري آخر‮. ‬والنتيجة المجهولة والمثالية التي يطمح إليها كل فريق هي إما‮ "‬أسلمة تلك الحداثة‮"‬،‮ ‬أو‮ "‬تحديث الإسلام‮".‬

 

الهوامش‮:‬

 

1- الآثار الكاملة لجمال الدين الأفغاني،‮ ‬خاطرات الأفغاني،‮ ‬إعداد وتقديم‮: ‬سيد هادي خسروشاهي،‮ ‬المجلد السادس،‮ ‬مكتبة الشروق الدولية،‮ ‬2002? ص206-208.

2- الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده،‮ ‬تحقيق‮: ‬محمد عمارة،‮ ‬المجلد الأول،‮ ‬دار الشروق،‮ ‬1993? ص48-.49

3- المرجع السابق،‮ ‬ص845-846.

4- المرجع السابق،‮ ‬ص‮.‬106

5- المرجع السابق،‮ ‬ص106-107.

6- انظر على سبيل المثال‮: ‬أحمد فهد بركات الشوابكة،‮ ‬محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية،‮ ‬عمان‮: ‬مكتبة عمار،‮ ‬1989.

7- انظر المرجع السابق‮.‬

8- انظر،‮ ‬حسن البنا،‮ ‬مجموعة الرسائل،‮ ‬دار الكلمة للنشر والتوزيع،‮ ‬الطبعة الأولي،‮ ‬مصر،‮ ‬ص121-130.

9- المرجع السابق‮.‬

10- انظر على سبيل المثال‮: ‬سيد قطب،‮ ‬معالم في الطريق،‮ ‬بيروت‮: ‬دار الشروق،‮ ‬1983، ص21.

11- المرجع السابق،‮ ‬ص‮ ‬98-.99

12- انظر،‮ ‬حسام تمام،‮ "‬الإخوان‮" ‬من الخلافة إلى الدولة الوطنية‮"‬، http://www.tawhed.ws/r?i=tsvqmj34

13- انظر المصري اليوم،30 ديسمبر‮ ‬2011.

14- انظر،‮ ‬على سبيل المثال،‮ ‬المصري اليوم،‮ ‬14 مارس‮.‬2011 http://www.almasryalyoum.com/node/352631

رابط هذا التعليق
شارك

الخلافة ليست حلماً ، ولو انها كانت حلماً لكان هناك امكانية تحقيقها أو عدم تحقيقها.

ولكن الخلافة بشرى من الرسول عليه السلام ووعدٌ من الله بقيامها لايدخل الشك في ذلك نسأل الله بقيامها بأرب وقت.قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } .

ملاحظة يا أخا الاسلام اقترح ان تختار كلمة غير كلمة حلم الخلافة وشكراً

رابط هذا التعليق
شارك

المقال فيه الكثير من المغالطات فمنذ متى و الماسونيون امثال الأفغاني ومحمد عبده دعاة للدولة الاسلامية-الخلافة-؟ ومنذ متى والخلافة هدفا للإخوان لتحقيقه؟ والخلافة ليست حلم عند المسلمين بل هي وعد من الله وبشرى من رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بل ان عدم قيامها أحلام وأماني عند أعداء الاسلام.

تم تعديل بواسطه جمال عبدالرحمن
رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...