اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

سلسلة العقدة الكبرى والعقد الصغرى


Recommended Posts

العقدة الكبرى والعقد الصغرى - الحلقة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الأولى

يختلف الإنسان عن غيره من المخلوقات المحسوسة، فهو وإن كان يشترك معها كلها في ماديته، ويشترك مع النباتات والحيوانات في كثير من حاجاته العضوية الحيوية، ومع الحيوانات في كثير من دوافعه السلوكية، إلا أنه يختلف عنها كلها بعقله، وأنها كلَّها مسخرةٌ له، ينتفع بها بقدر ما تتوصل إليه قدراته الجسمية والعقلية.

 

فالإنسان لديه:

 

1-              حاجات عضوية

2-              غرائز

3-              عقل

 

والحاجات العضوية حاجات لا تستقيم أمور جسمه المادية بدونها، فبعدم إشباعها يموت الإنسان، وهي إضافة إلى ذلك إثارتها داخلية، أي يحسّ الإنسان بالجوع نتيجة عمليات فسيولوجية عصبية، تدفعه لأن يأكل، ويحس بالنعاس نتيجة عمليات فسيولوجية عصبية تدفعه لأن ينام، وهكذا، وهذه الحاجات هي: الحاجة إلى الطعام، والحاجة إلى الشراب، والحاجة إلى النوم، والحاجة إلى الإخراج، والحاجة إلى التنفس، وإن كان التنفس غير إراديّ، لكنه بنقصه أو ضعفه أو فقدانه يدفع صاحبه لتوفيره.

 

وبهذا يكون قد اتضح النوع الأول من دوافع السلوك، وهي الدوافع التي تدفعه لإشباع حاجاته العضوية.

 

أما الغرائز، فهي دوافع خلقت مع الإنسان، خلافاً لعلماء ما يسمى بعلم النفس، الذين يقولون إنها توجد مع الإنسان في نشأته وحين تربيته، فالإنسان يندفع للمحافظة على حياته تلقائيا بمجرد مشاهدة أي خطر يهدد حياته، ويندفع للدفاع عن نفسه، ويندفع للاعتداء على أقرانه، ويحس بالعجز الطبيعي فيبكي إن كان طفلاً صغيراً لعدم تلبية حاجته، ويقلق إن كان كبيراً ولم يستطع تلبيتها، وهكذا.

 

ويبدو أن الذي أدى بعلماء ما يسمى بعلم النفس إلى القول إنها تنشأ مع الإنسان في نموه وتربيته، إنما هو الخلط بين الدافع السلوكي المخلوق مع الإنسان أصلاً، وبين المفهوم المصاحب له، الذي ينشأ مع الإنسان في نموه وتربيته وتعلمه، فالطفل الصغير الذي لم يتشكل لديه مفهوم الحفرة والوقوع في الحفرة لا يدرك خطر الوقوع فيها على حياته، والذي لم يتشكل لديه مفهوم إغراق الماء، لا يدرك خطر الوقوع في بركة ماء أو بئر ماء، فلما رأوا أن الإنسان منذ طفولته تتشكل مفاهيمه عن الأشياء حوله، ظنوا أنه تنشأ معه الدوافع الغريزية من تربيته وتعلمه وتَشَكُّلِ المفاهيم.

 

كما أنهم –أي علماء النفس- خلطوا بين الغريزة ومظاهرها، فالغرائز عند الإنسان ثلاث:

 

-       البقاء

-       النوع

-       التدين

 

ولكل واحدة منها مظاهر متعددة، فمن مظاهر غريزة البقاء: كراهية الموت، التملك، الدفاع عن النفس، التداوي، وغير ذلك. ومن مظاهر غريزة النوع: الميل الجنسي، الحنان، العطف، حب الوالدين، والأبناء، والإخوة، والصديق، وغير ذلك. ومن مظاهر غريزة التدين: الإحساس بالعجز الطبيعي، الإحساس بالنقص، الحاجة للخالق المدبر، التقديس، وغير ذلك.

 

لكن علماء النفس لم يفرقوا بين الغريزة ومظهرها، فإن أصل الغريزة عند الإنسان لا يمكن محوه أو إزالته، ولكن يمكن التخلص من مظهر بمظهر آخر، كمحو الأثرة بالإيثار، وكمحو حب الزوجة بحب الأم عند بعض الناس، وهكذا.

 

والفرق بين الغريزة والحاجة العضوية من جهتين:

 

1-              من جهة الإثارة، فالحاجة العضوية إثارتها داخلية، فسيولوجية عصبية، أما الغريزة فإثارتها خارجية، إما بمشاهدة المثير فتحصل الإثارة، وإما باستحضار صورة المثير وتذكره.

 

2-              من جهة نتيجة عدم الإشباع، فالحاجة العضوية يؤدي عدم إشباعها إلى الموت، أما الغريزة فإن عدم إشباعها لا يؤدي إلى الموت، بل يؤدي إلى القلق والاضطراب والتوتر، وكم من الناس عاش محروماً من الزواج مثلاً، أو من المال، أو من الإنجاب، أو غير ذلك، فالذي نشأ عندهم نتيجة ذلك إنما هو قلق واضطراب وهمّ وتنغيص في العيش، ولم يحصل أن مات أحد من الناس نتيجة حرمان من إشباع مظهر غريزي.

 

والعقل عند الإنسان أو التفكير هو الذي يميزه، ويميز سلوكه، ويجعله ناهضاً راقياً، أو يجعله منحطاً، به يحكم على الأشياء حوله، وبه يتخذ قراراته، وبه يحدد كيفية إشباعه لحاجاته العضوية وغرائزه، وبه يختار بين المشبعات حين تتعدد.

 

والتفكير عند الإنسان لا بد له من أربعة أركان: واقع يفكر فيه، وحواسَّ تنقل الواقع إلى الدماغ، ودماغ صالح للربط، ومعلومات سابقة عن الواقع المراد التفكير فيه، فالتفكير ربط للواقع بالمعلومات المتعلقة به لتفسيره أو لإصدار حكم عليه.

 

ولكن لا بد للإنسان من طريقة يعقل بها، يستخدمها حين الحكم على الأشياء،

 

 (والإنسان يكيف سلوكه في الحياة بحسب مفاهيمه عنها ، فمفاهيم الإنسان عن شخص يحبه تكيف سلوكه نحوه ، على النقيض من سلوكه من شخص يبغضه وعنده مفاهيم البغض عنه ، وعلى خلاف سلوكه مع شخص لا يعرفه ولا يوجد لديه أي مفهوم عنه ، فالسلوك الإنساني مربوط بمفاهيم الإنسان) نظام الإسلام، من منشورات حزب التحرير، 1953، ط7، ص3.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثانية

 

 

لكن المشاهد المحسوس أن لدى الإنسان عقدة كبرى، تنشأ لديه من غريزة التدين، تثير عليه عدداً من الأسئلة، تدفعه للإجابة عنها إجابة عقلية، مقنعة للعقل، مطمئنة للفطرة، وهذه الأسئلة هي:

 

-       من أين جئت؟

-       ولماذا؟

-       وإلى أين؟

 

نجدها تبدأ مع الطفل الصغير، فيسأل أباه وأمه: من أين جئت؟ فيجيبونه إجابات تسكته مؤقتاً، ثم يعيد الكرة مرات ومرات، ولا يتوقف هذا السؤال إلا إذا حصل على إجابة مقنعة، فإن أجابوه بأنهم ولدوه، فسينتقل بالسؤال إليهم: وأنتم من أين جئتم؟ ويكون الجواب: كل منا من أب وأم، ولكن هذه السلسلة لا بد لها من نهاية، وإلا فإن السؤال يبقى قائماً، ذلك أن الإنسان مرتبط في وجوده بهذا الكون، وعندما يسأل فإنه لا يقتصر في سؤاله عن نفسه، وإنما يسأل عن جنسه البشري، بل يسأل عن الكون كله، وعن كل ما فيه، فإن أجيب بأننا قد خلقنا الله تعالى، والله تعالى خلق لنا هذا الكون، فإن سؤاله يتوقف، لأنه يشاهد كل شيء حوله مخلوقاً، عاجزاً ومحدوداً وناقصاً، ويشاهد كل شيء حوله محتاجاً لقصوره الذاتي.

 

ثم إن ذلك الطفل حين يسمع أن جده قد مات، أو أن قريباً أو جاراً قد مات، فإنه يعود إليهم بسؤال آخر: إلى أين؟ أين ذهب؟ فيبدأ مفهوم الموت بالتشكل لديه، ويريد معرفة حقيقة الموت، وماذا بعد الموت، حتى يحصل على الإجابة المقنعة لعقله والمطمئنة لقلبه بأنه ذهب إلى خالقه، فيتوقف السؤال عنده.

 

ولكنه يثور لديه سؤال ثالث: لماذا؟

 

لماذا نحن هنا؟ قلتم إن الله تعالى هو الذي خلقنا، وخلق لنا الكون، فماذا يريد منا؟ لماذا خلقنا؟ حتى يأتيه الجواب: وما خلقت الجنّ والإنسَ إلا ليعبدون، وأنه أرسل إلينا رسلاً يبينون لنا كيف نعبده، وكيف نسير في هذه الحياة الدنيا على هدى وعلى صراط مستقيم، فتهدأ لديه هذه الأسئلة.

 

هذه الأسئلة، من أين جئت؟ ولماذا؟ وإلى أين؟ هي أسئلة العقدة الكبرى عند كل إنسان، تدفعه ليجيب عنها، وتكون الإجابة عنها فكرةً كليةً عن الكون والإنسان والحياة، وعن علاقتها جميعها بما قبلها، وعن علاقتها جميعها بما بعدها، ويكفي فيها أن تكون كلية إجمالية غير تفصيلية، إذ التفصيل لا يلزم لمجرد الإجابة عن الأسئلة، وإن كان يلزم بعض الناس من العلماء الذين أخذوا على عاتقهم البحث والتنقيب عن نشأة هذا الكون، وكيف نشأ، ولكن التفصيل لا يلزم لتشكيل فكرة كلية إجمالية.....

 

قلنا إن هذه الأسئلة تثور على كل إنسان في مواقف حياته المختلفة، تدفعه للإجابة عنها، ولأنها مظهر من مظاهر الغريزة لديه، فإن عدم الإجابة عنها لا يؤدي إلى الموت، وإنما يوقع الإنسان في قلق واضطراب، يوقع الإنسان في شقاء، فلا يحسّ للحياة طعماً، ولا يهدأ باله، ولذلك فإنا نرى أكثر الناس ممن لم يجيبوا عن هذه الأسئلة إجابة عقلية صحيحة مقنعة، نجدهم يعيشون في شقاء دائم، لأن عدم الإجابة عن هذه الأسئلة شكل لديهم عقدة، لا تنحل إلا بالإجابة عن الأسئلة الثلاثة.

 

إن الإجابة عن الأسئلة الثلاثة إجابة عقلية صحيحة مقنعة تجعل الإنسان يحدد غايته من هذه الحياة، وتجعله يحدد قضيته المصيرية التي يعيش من أجلها، وتعطيه مَثَلَه الأعلى في الحياة، وغايةَ الغاياتِ عنده، وتعطيه مقاييس مختلفة لحياته، فتعطيه مقياساً للسعادة، وتعطيه مقياساً للسلوك، وتعطيه مقياساً للمشاعر، وتعطيه مقياساً للأفكار والمفاهيم، وتعطيه مقياساً للخير والشرّ، وتعطيه مقياساً للضرّ والنفع، وتجعله يحدد موقفه من أمور الحياة كلها، فتجعله يحدد موقفه من الماضي، ومن الحاضر، ومن المستقبل، ومما يمكن أن يصيبه في المستقبل، وتجعله يحدد موقفه من ضعفه وعجزه، وتجعله يحدد موقفه من القضايا التي تشكل أرقاً وقلقاً عند جميع الناس: كالأجل، والرزق، والتوكل، والقضاء والقدر، والهدى والضلال، والنصر، والضر والنفع، والخير والشر، والحلال والحرام، وتعطيه المفاهيم الراقية عن الحياة الدنيا، وتعطيه التصوير الصحيح للحياة، فلا يكون فيها عبداً لشهواته، لا فرق بينه وبين ذوات الأربع، أو اللواتي تمشي على بطونها، أو تسبح في الماء، أو تطير في الهواء، بل يبقى في مقام التكريم الإلهي الذي أراده له خالقه سبحانه وتعالى، الذي خلقه في أحسن تقويم، ليسير على طريق مستقيم، يحقق سعادته في الدنيا والفوز في الآخرة.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثالثة

 

 

رأينا ونرى الناس كيف يشقون بعقولهم، بما فرضه عليهم المبدأ الرأسمالي الذي صوّر الحياة تصويراً منحطاً، لا يرقى إلى مستوى البهائم، خرج على الناس بفكرة الحريات، التي انحطت بالإنسان إلى أدنى من درك الحيوان، بل إن الحيوانات كلها لا تفعل كثيراً مما يفعله كثير من بني البشر اليوم، تجد الحيوان المفترس يجوع مثلاً، فيتحين فرصة لفريسة يقتنصها، وما أن يتم له ذلك، حتى يأكل منها إلى أن يشبع، ويشاركه في صيده غيره من بني قطيعه، حتى إذا شبعوا تركوا ما بقي وراءهم، لتأتي بعدهم حيوانات أخرى أضعف منهم ليأكلوا مما تركته الحيوانات القوية المفترسة، فيأكلوا حتى يشبعوا، ثم يتركون ما تبقى، لتأتي حيوانات أخرى، فتشاهد طيوراً تأتي لتأكل، ثم تخرج هوامّ الأرض لتأكل مما تبقى، فتجد الفريسة الواحدة يأكل منها عشراتٌ أو مئاتٌ من الحيوانات، حتى لا يبقى منها إلا العظم الذي يأكله الدود بعد ذلك.

 

لكن الإنسان ماذا يفعل؟ هل يفعل مثل الحيوانات؟ فيأخذ حاجته ويمضي؟ أم أنه وهو جالس على طعامه في يومه يكون يخطط لطعامه في اليوم التالي؟ أم أنه يأخذ من السوق ما يزيد عن حاجته؟ أم أنه إذا سمع بأزمة حول نوع من الطعام فإنه يسارع إلى السوق ليأخذ أكبر قدر ممكن من ذلك النوع ليخزنه ويدخره، يخاف أن يجوع في الأيام القادمة؟؟ يمتلك...

 

تجد الذكور من الحيوانات لا تأتي إلا إناثها، وبحسب الخلق الطبيعي لغريزة النوع، لكن البشر اليوم في النظام الرأسمالي قد شرعوا في برلماناتهم زواج المثلين، ليأتي الذكر الذكر، والأنثى الأنثى، مما تعافه الحيوانات وتأباه طباعها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

تجد شخصاً واحداً يمتلك ما يكفي الملايين من البشر ولا يشبع، ويطمح للمزيد، وتجد الملايين لا يجدون قوت يومهم..

 

فهل سُعِدَ الناسُ بحمل فكرة الحريات؟ أم شَقوا بها؟ وهل سعدوا بتطبيق المبدأ الرأسمالي عليهم أم شقوا؟

 

والجواب بشكل قاطع بالنفي، لا تكاد تجد واحداً سعيداً من بين مئات وآلاف من الناس، فالأكثرون لم يجيبوا عن أسئلة العقدة الكبرى الإجابة الصحيحة، ولذلك تجد العقدة الكبرى تظهر عندهم باستمرار فتسبب لهم الشقاء، دون أن يستطيعوا أن يحددوا سبب شقائهم، وتظهر لديهم مختلف العقد الصغرى، فالكبرى لم تحلّ لديهم، فكيف تحلّ الصغرى؟

 

وهذا البحث لازم وضروري لكل إنسان بوصفه إنساناً، لأن الحديث عن خواص الإنسان، فيشمل كل من ينطبق عليه هذا الوصف، فيشمل المسلم وغير المسلم، ولربما قال قائل أوليس المسلم قد حل العقدة الكبرى لديه بإيمانه بالله سبحانه وتعالى خالقاً، وباليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وجنة ونار، وآمن أنه مكلف بعبادة الله تعالى فيعبد الله كما أمر؟

 

ولكن، للأسف الشديد، أن الأكثرين من المسلمين، مع أنهم مسلمون، إلا أنهم لم يحلوا العقدة الكبرى حلاًّ عقلياً يشكل لديهم قاعدة فكرية ينطلقون منها لتشكيل مفاهيمهم الصحيحة عن الحياة الدنيا، ولا أدلّ على ذلك من خوف كثير من المسلمين على حياتهم، وحياة أبنائهم، وخوفهم على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، فهل تجد واحداً بالمئة من المسلمين لا يخاف على مستقبله ومستقبل أولاده؟

 

هل تجد مسلماً من بين ألف مسلم يسمح لابنه أن يضحي بنفسه في سبيل الله؟

 

والعجب العجاب أن كثيراً من المسلمين قد تأثروا بالغرب في مسألة إنجاب الأطفال، فصار كثير منهم يقلد الغربيين، من يتزوج منهم، فيخطط ألا ينجب إلا واحداً أو اثنين، وإن سألته كان الجواب: حتى نستطيع إطعامهم، وتدريسهم وتكوين مستقبلهم، وينسى الآيات الكريمة التي يحفظها ويعرفها من مثل (نحن نرزقهم وإياكم)، فيظن الكثير من البشر أنه هو الذي يرزق نفسه، ولسان حال الأكثرين من الناس يقول: (إنما أوتيته على علم عندي)، وتجد الكثير منهم يعبر عن ذلك بقوله: هذا تعبي وعرقي وجهدي ودمي... وغير ذلك مما جادت به علينا المسلسلات والأفلام التي غزت عقول أبناء المسلمين بأفكار الغرب ومفاهيمه، فتجد المسلم مسلماً ببعض العبادات الفردية التي يقدر عليها. وفي ما عدا ذلك من شؤون الحياة فإن النظام الرأسمالي هو الذي يتولى توجيهه وتسييره بحسب ما يريد ذلك المبدأ الذي انحط بأهله وبمن طبق عليهم أيضاً.

 

تجد كثيرا من أبناء المسلمين يدخرون لدنياهم أكثر من ادخارهم لآخرتهم، ولا يختلفون في هذا عن الغربيين الذين يدخرون لآخر أيام حياتهم، حين لا يجدون أحداً يرعاهم في تلك الأيام.

 

تجد المسلمين يحفظون آيات الحكم بما أنزل الله، ويعرفون وجوب تحكيم شرع الله فيما بينهم، ولكنهم لا يجدون غضاضة في المطالبة بدولة مدنية، أو ديمقراطية، سواء أفقهوا معنى كل منهما أم لم يفقهوا.

 

تجدهم يهرب بعض منهم من البنوك الربوية المكشوفة الربا، إلى ما سموه بالبنوك الإسلامية، وكأن ما يقوم به البنك الإسلامي ليس تمويلاً كالتمويل الذي تقوم به البنوك الربوية المكشوفة الربا، ولا يستطيعون أن يدركوا التشابه بين الحالتين إلا بعد أن يكتووا بنار تلك البنوك، حتى يقول قائلهم: إن البنك الربوي المكشوف الربا أرحم من البنوك الإسلامية.

 

ولذلك فإن هذا البحث لازم وضروري لكل واحد من الناس سواء أكان مسلماً أم غير مسلم، ليقوم كل واحد من البشر بحل عقدته الكبرى، فيحل بعدها كل عقده الصغرى.

 

ولكن ما العلاقة بين العقد الصغرى والعقدة الكبرى؟

 

وما هي العقد الصغرى أصلاً؟

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الرابعة

 

 

إن العقد الصغرى تنشأ عند الإنسان من مظاهر الغرائز الثلاث والحاجات العضوية لديه،

 

-       حين لا يشبعها،

-       أو حين يشبعها إشباعاً خاطئاً،

-       أو حين يشبعها إشباعاً شاذّاً

 

فهذه ثلاثة من الاحتمالات الممكنة عند كل إنسان، حينما يثور لديه أي مظهر من مظاهر الغرائز أو الحاجات العضوية. والاحتمال الرابع هو الإشباع الصحيح الموافق لحل العقدة الكبرى، فلا ينشأ عنه مشكلة أو قلق أو اضطراب، والاحتمال الأخير ألاّ تثورَ لديه فلا يحتاجَ لإشباعٍ، ولا تسببَ له مشكلة.

 

وربما قال قائلٌ: هذا شأن الذي ثارت لديه لم يشبع، فلماذا عممت على من أشبع إشباعاً خاطئاً، أو إشباعاً شاذّاً؟

 

والجواب: أن تركيب هذا الإنسان العجيبَ جعله لا يسعد إلا بالإشباع الصحيح الموافق لحل العقدة الكبرى الصحيح، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)، وغير ذلك من الآيات والنصوص الشرعية القطعية الدلالة على ما نقول.

 

ولربما قال قائل إن هذه الأدلة تستدلّ بها وتحتجّ بها على المسلم الذي يؤمن بهذه الأدلة، وبمصدرها، وأما غير المسلم فكيف تثبت له أنه يشقى سواء أشبع أم لم يشبع؟

 

والجواب هو في واقع هذه الغرائز والحاجات، فالمشاهد المحسوس أنها لا تتطلب مجرد الإشباع، وإنما تتطلب شيئاً آخر غير الإشباع، وبيان ذلك في أنه لا يمكن الشبع إلا بإحدى حالتين:

 

1-             توقف قدرة الإنسان على الإشباع، كمن يأكل حتى لا يبقى لديه قدرة ليأكل أكثر مما أكل.

 

2-             تسيير السلوك في الإشباع أو عدم الإشباع بحسب ما يقتضيه الحل الصحيح للعقدة الكبرى، فسواء تحقق الإشباع أم لم يتحقق فإن الرضا يتحقق عند الإنسان.

 

ونوضح أكثر بمثال آخر:

 

يسعى الإنسان لأن يمتلك مالاً، ويجدّ ويكدّ وينفق ليله ونهاره، وحين يمتلك هذا المال فإنه يحس بمتعة الحصول عليه وامتلاكه أول ما يحصل عليه، ولكن بعد ذلك يثور لديه إحساس يدفعه لأن يسأل نفسه: وماذا بعد؟ أو بالعامية: وبعدين؟ وهذه الحالة يجدها كل إنسان لم يحلّ العقدة الكبرى حلاً عقلياً صحيحاً، ودون ربط الإشباع بحل العقدة الكبرى، لارتباط الإشباعات عند الإنسان بما بعد الحياة الدنيا.

 

 ويمكن أن نسميها بـ (البعدية) أو (البعدينية) التي تسبب الشقاء للإنسان، سواء أشبع أم لم يشبع، أشبع بشكل خاطئ، أم بشكل شاذّ، حتى لو أشبع إشباعاً صحيحاً دون ربطه بحل العقدة الكبرى لديه فإنه يحسّ بالإحساس نفسه.

 

ولذلك فإن الإشباعَ الوحيدَ المؤدّي إلى الاستقرار والرضا والطمأنينة لا يمكن أن يكونَ إلا بتحقيق الأمور الثلاثة التالية:

 

-الإشباع على هيئة معينة وكيفية معينة، وهو أن يكون بحسب أوامر اللهِ ونواهيه.

 

-ربط الإشباع على هذه الهيئة والكيفية بحلِّ العقدةِ الكبرى، وتمثّل أنّ هذا الإشباع بهذه الكيفية هو ما انبثق عن حل العقدة الكبرى.

 

-تمثُّل الغايةِ من الإشباع على هذه الهيئة وهذه الكيفية، وكون الغاية تحقيق رضوان اللهِ.

 

بهذه الأمور الثلاثة تتحقق الطمأنينة، ويتحقق الرضا النفسي المستمر عند الإنسان، ويتحقق هذا في حالتي الإنسان: الإشباع، وعدم الإشباع، فهو يحقق الرضا والطمأنينة حتى لو لم يشبع، كالصائم الذي يمتنع عن طعامه وشرابه، ويقرصُه الجوع، لكنه راض تمام الرضا، ومطمئنٌ كامل الطمأنينة، لأنه يسير إشباعه وعدم إشباعه بحسب أمر الله ونهيه، ويربط هذا الإشباع أو عدم الإشباع بحل العقدة الكبرى لديه، ويتمثلُ الغايةَ التي أشبع أو لم يشبع من أجلها، فيحقق رضوان الله تعالى، ويحقق الطمأنينة والرضا.

 

وعليه فلا بد من نظام كامل للإشباع، لإشباع الحاجات العضوية، ومظاهر الغرائز لدى الإنسان، نظام منبثق من حلّ العقدة الكبرى، يعطي صاحب هذا الحل كيفية محددة لإشباع كل حاجة وكل مظهر من مظاهر الغرائز لديه، فتنحلّ كل العقد الصغرى عنده.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الخامسة

 

 

ومما يجبُ لفتُ النظرِ إليه هنا وجودُ مظاهرَ غريزية متناقضة عند الإنسان، وليس في هذه المظاهر المتناقضة ميزة لأحد المتناقضين على الأخر تجعله الأولى بالإشباع، فيقعُ الإنسانُ في حيرةٍ من أمرِه، أيشبعُ هذا المظهرَ فيهدئه ويسكنه، ويتركُ الآخرَ ينغّصُ عليه عيشَه؟ أم يتركُ الاثنين فلا يشبعهما فيستمر قلقه ويتضاعف وتزدادُ حيرتُه؟ وهو كذلك لا يستطيع أن يشبعهما معاً في الموقف المثيرِ الواحد، فماذا يفعل؟

 

ومن أمثلة هذه المظاهر المتناقضة الأثرةُ والإيثار، والشحّ والكرم، وغيرها، فلا بد من المفهوم الصحيح للإشباع، وهذا المفهوم لا يكونُ صحيحاً إلا إذا انبثق عن الحلّ الصحيح للعقدة الكبرى انبثاقاً صحيحاً.

 

ولكن الغالب على الناس أنهم يهربون من هذا السؤال بجواب لسؤال آخر، وليس لهذا السؤال: وماذا بعد؟ فبعد أن يحقق المرء هدفاً كان يسعى إليه، كالنجاح في الثانوية العامة مثلاً، فإنه يجيب أن ما بعده هو الجامعة، وبعد الدرجة الجامعية الأولى عندما يثور عليه السؤال مرة أخرى، تكون إجابته بمتابعة الدراسة أو البحث عن عمل، فيسعى للحصول على عمل يحقق له أعلى مستوى من العيش، وبعد الحصول عليه وبعد أن يطمئن للحصول عليه، يثور عليه السؤال مرة أخرى، فيكون الجواب: البيت... الزواج... الأولاد، ثم تربية الأولاد، ثم تعليمهم أفضل تعليم، وتنشتهم أفضل تنشئة، وبأعلى مستوى ممكن من الحياة، وهكذا فلا تنتهي طموحات الإنسان إلا بالموت، انظر إلى قول الله تعالى في سورة الحجر: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، فهل خلق الإنسان لأجل هذا؟ أم أن كلّ ما سبق من آمال للإنسان إنما هي تحصيل حاصل؟ تتحقق لكل إنسان، سواء أجعل الآخرةَ هدفَه وغايتَه، أم جعلَ الدنيا غايتَهُ وهدفَه؟

 

انظر بم وصف الله سبحانه وتعالى الكفار، في سورة محمد: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)، فهذا يعني أن هناك أكلاً غير أكل الأنعام، وتمتعاً غير تمتَع الأنعام، فليست المسألة مسألة إشباع حاجة عضوية، أو إشباع مظهر من مظاهر الغرائز، بل المسألة مسألة إشباع على هيئة معينة وكيفية معينة، وإلا فإن الإشباع لا يتحقق، يتحقق في حالة واحدة فقط من حالات الإشباع، أن يشبع على هيئة معينة، ويربط هذا الإشباع بحل العقدة الكبرى، ويتمثل الغايةَ من الإشباع على هذه الهيئة، فحينئذ لا تنشأ عقد صغرى عند الإنسان. ولهذا القول تفصيل.

 

وندخل هنا إلى مسألة أخرى، وهي مسألة مادية الإنسان، فالإنسان مادة فقط.

 

وكل ما يقع حسه عليه مادة فقط، ولكن هناك أمراً آخر، وهو كون هذه المادة سواء التي هي حوله، أو التي تكوّن جسمه منها، مخلوقةٌ لخالق، هو الله عز وجل، وهنا تتشكل صلةٌ بين هذه المواد وبين الخالق سبحانه وتعالى، صلة الخلق، وهذه الصلة هي الروح، ولكن من الذي يدرك هذه الصلة؟ يدركها المؤمن بالله سبحانه خالقاً لهذا الكون، فمن أدركها صار عنده روح، وهذه الناحية في الأشياء هي الناحية الروحية، إدراك الصلة بالخالق سبحانه.

 

وهذا الإدراك مطلوب من الإنسان في كل عمل من أعماله، مطلوب منه أن يسيّر أعماله بحسب ما أمر الله سبحانه وتعالى، فيفعل حين يفعل الفعل بحسب مقياس الفكرة الكلية (حل العقدة الكبرى) من جهة حكمه الشرعي، ويتعامل مع الأشياء في هذا الكون على أنها مخلوقة للخالق سبحانه، وأنه سخرها له لينتفع بها بحسب أمر الله تعالى ونهيه، ولذلك فإنه عندما يقوم بإشباع حاجة من حاجاته، أو مظهر من مظاهر غرائزه يدرك هذه الصلة، فيسير إشباعه بحسب مقياس الحكم الشرعي، وهنا تنشأ عنده الناحية الروحية، الصلة بالخالق سبحانه وتعالى، ويتم التسيير بحسب نظرته للسعادة من أنها إرضاء الله تعالى، ومن حيث نظرته للحياة وتصويره لها الذي أخذه من الفكرة الكلية (حل العقدة الكبرى) فيحقق القيمة المرجوة من الفعل، والمثل الأعلى الذي يسير بحسبه، في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط لا يثور عليه سؤال: وماذا بعد؟ أو: وبعدين؟ فيكون قد تخلص من العقدة الصغرى المتعلقة بهذا المظهر الغريزي، أو الحاجة العضوية.

 

وعليه يتحقق القول: وإعطاء الفكرة الكلية عن هذه الأشياء [الكون والإنسان والحياة] هو حل العقدة الكبرى عند الإنسان . ومتى حلت هذه العقدة حلت باقي العقد

 

 

 كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة السادسة

 

 

فالإنسان لم يُرَدْ له أن يكونَ كالحيوان، يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام، ولم يُرَدْ له أن يجعلَ غايته وهدفَه المتعة في هذه الحياة الدنيا، بل إنه موعود بها في الآخرة، (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) وقوله تعالى: (} يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ  وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وإذا علمنا أن الله تعالى قد ضمن لكل إنسان رزقه، أدركنا أن غاية وجود الإنسان في الأرض ليست تحصيل الرزق، فهو تحصيل حاصل، مضمون لكل إنسان، (أَهُمْ  يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ  الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)  وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفث روح القدُس في رُوعِي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفيَ رزقَها وأجلَها وما قُدِّرَ لها)، وإذا علم الإنسان أنه سبحانه وتعالى له ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) فلا يجعل أكبرَ همّه الأولاد والبنات، وإذا علم أنه سبحانه القائل: (نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) لم يقلق على رزق أولاده، وإذا علم الإنسان أنه تعالى القائل: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) لم يقلق على أجله، ولم يخف على حياته، وإذا علم الإنسان أن ما يصيبه في هذه الدنيا هو بسبب ذنوبه (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) أدرك أنه يستطيع تجنب وقوع المصائب به بتجنب الوقوع في الذنوب، وإذا أيقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، سدّ باب الندم والحسرة على ما فات، وأيقن أن ما هو مقدّر له أن يقع عليه فإنه سيقع عليه مهما فعل، فيلتزم ما أمره الله تعالى به، ويجتنب ما نهى عنه، وإذا أدركَ الإنسان وجودَ خالقِهِ سبحانه وتعالى، وأدرك قوته وعظمته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، أدركَ أنّه قويٌّ بالله وحده، واستطاع أن يتجاوزَ ضعفَهَ وعجزَه الطبيعيّ، فيسير في حياته الدنيا لا يهاب غير الله تعالى، فيصنع ما يشبه المعجزات، كما صنعها الصحابة الكرام الأوائل، فكانوا لا كالبشر، وإنما طاقات هائلة متفجرة، حملوا الإسلام إلى الناس في فترة قياسية بالنسبة لما كان متاحاً لهم من إمكانات.

 

وإذا علم الإنسانُ أنه لا نصر إلا من عند الله، وأنه تعالى وحده الناصر: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ) فإنّه يُقدِمُ مقبِلاً على ما أمره الله سبحانه وتعالى به من أعمال، موقناً أنه يحقق ما يريد من نتائج بتوكله على الله، واستعانته به، واستنصاره به وحده.

 

وإذا علم الإنسانُ أن النفعَ والضرَّ بيد الله تعالى وحده، أيقن أنه لو اجتمعت الأمة على أن يضروه، لم يضرّوه إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليه، وأنه لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، فلا يرجو غيرَ الله، لأنه المالك الحقيقي للسموات والأرض وما فيهما، وهو وحده المعطي، ولا يخاف غير الله، فلا يقدِرُ أحدٌ من البشر ولو اجتمعوا على أن يضرّوه إلا بما أراده الله سبحانه وقدّره عليه.

 

إذا علم الإنسانُ كلّ ذلك، والتزم بما أراده الله سبحانه وتعالى، كان كلُّ أمره خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، فيؤتى أجر الصابر وأجر الشاكر، وهذا لا يكون إلا للمؤمن، الذي حلّ العقدة الكبرى حلا صحيحاً مقنعاً، فيوقن أنّ كل ما يصيبه خيرٌ له حتى لو كان في ظاهره شراً، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). ويترتب على كل ما سبق أن يجعل الإنسانُ الآخرةَ أكبرَ همّه، ولا يجعل الدنيا أكبر همّه، فهو حتى لو أراد الدنيا فإنه لن يجدها عند غير الله: (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) وإن أرادَ الدنيا وجعلها غايته ندم وخسر: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ، أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) ويجعل غايته من الدنيا لقاء الله تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) ويخاف من الوعيد الشديد لمن لا يرجون لقاء الله، ولم يعملوا للقاء الله، وعملوا لدنياهم وحسب: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ،  أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) ويوقن أن كل ما عنده في هذه الحياة الدنيا إنما هو من عند الله وحده، وأنه كله متاع زائل بزوال الدنيا: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، فهل يبقى بعد كل هذا أي سببٍ للقلق أو الاضطراب أو التوتر؟ وهل يبقى مجال عند كل من آمن وعمل صالحاً، وحمل مفاهيم الإسلام الصحيحة؛ أن تنشأ لديه عقدة صغرى، فضلاً عن عقدة كبرى؟

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة السابعة

 

 

إن الإنسانَ بوصفه إنساناً مجرداً من المفاهيم الصحيحة التي أراد له الله سبحانه وتعالى أن يحملها ويسير عليها إنما هو إنسان معقّد، مليء بالعقدِ الكبرى والصغرى، فهو صاحب الطغيان إذا استغنى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)، وهو القَتور: (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا)، وهو الهَلوع: (} إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)، وهو العَجول: (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)، وهو الظَّلومُ الْجَهول: (} إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ  وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، وهو المعرضُ النائي بجانبه إذا أنعم الله عليه، وهو ذو الدعاء العريض إذا مسّه الشرّ: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ). وهو الخصيم المبين لله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) ، وهو اليؤوس القَنوط:  (وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ)،  وهو الفرِحُ  بما يُؤتى، وهو الكفور: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ)، (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ)، (قُتِلَ الْإِنسَانُ  مَا أَكْفَرَهُ)، وهو الكنود لربه: (} إِنَّ الْإِنسَانَ  لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)، وهو شديد الحب للخير: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ).

 

والمتعة لا تصلح أن تكون غاية اقرأ قول الله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ  إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ  ، مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)، والمتعة يكون الإحساس بها في وقتها، وبعد زوال وقتها يثور السؤال المعتاد: وماذا بعد؟ أو: وبعدين؟ فهي وإن كانت أشبعت حاجة عضوية، أو مظهراً من مظاهر الغرائز، ولكن ذلك لا يعني إلا إشباع هذا المظهر أو تلك الحاجة، ولكنها لم تحقق الإشباع النفسي ولا الإشباع الروحي، إلا إذا ارتبط إشباعها بحل العقدة الكبرى، وانظر إلى شقاء الغرب بعد فكرة الحريات، وبعدما فعلوا كل ما يريدون، وما تسوله لهم أنفسهم، وما سولته لهم شياطينهم، وبعدما حققوا كل ما أرادوا من متع، تراهم يعيشون في شقاء دائم، وانظر إلى نسب الانتحار عندهم كيف ترتفع عند الأغنياء منهم، والمشهورين، فلو حقق لهم المال سعادة لما انتحروا، ولكنهم أحسوا بعدم جدوى وجودهم في الحياة، أي فقدوا طعم الحياة، رغم ما حققوه من متع.

 

الحل الصحيح للعقدة الكبرى:

 

قلنا إن أسئلة العقدة الكبرى هي: من أين جئت؟ ولماذا؟ وإلى أين؟

 

وقلنا إن إجابة هذه الأسئلة يكون بإعطاء فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، وعن علاقتها جميعها بما قبلها، وعن علاقتها جميعها بما بعدها.

 

والجواب العقلي الوحيد الصحيح عن هذه الأسئلة هو: أن الله تعالى خلقنا من العدم، وكلفنا بعمارة الأرض بحسب أمره ونهيه، وأنه سيبعثنا يوم القيامة للجزاء، الثواب والعقاب، ويجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، فالصلة بما قبل الحياة الدنيا، هو أننا والكون والحياة مخلوقون لخالق، وأرسل إلينا أوامرَ ونواهي لنسير بحسبها، فتكون الصلة بما قبل الحياة الدنيا صلتين: صلة الخلق والإيجاد من العدم، وصلة الأوامر والنواهي، وتكون الصلة بما بعد الحياة الدنيا صلتين أيضاً، صلة البعث والنشور، وصلة الثواب والعقاب على الأوامر والنواهي.

 

وهذا الحل هو فكرة كلية غير تفصيلية، عما قبل وعما بعد، وهذا الحل يشكل القاعدة الفكرية التي يبني عليها الإنسان أفكاره ومفاهيمه، ويسير سلوكاته بحسبها.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

 

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثامنة

 

 

وهذا الحل هو فكرة كلية غير تفصيلية، عما قبل وعما بعد، وهذا الحل يشكل القاعدة الفكرية التي يبني عليها الإنسان أفكاره ومفاهيمه، ويسير سلوكاته بحسبها.

 

فبني عليها أن الله تعالى أرسل إلينا رسلاً ليبلغنا الأوامر والنواهي التي نسير بحسبها لنعيش بسعادة ونفوز برضوانه، وكان محمدٌ صلى الله عليه وسلم آخر رسول، وكانت رسالته آخرَ رسالة، وكانت خاتمةَ الرسالات وناسخةً لها ومهيمنة عليها، وكانت الرسالة الخاتمة متضمنة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وما أرشدا إليه من قياسٍ وإجماع صحابة، بلغنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تضمنت المفاهيم الصحيحة التي تسعدنا في هذه الحياة الدنيا، والأحكام الشرعية التي نسير سلوكاتنا بحسبها، وكل من المفاهيم والأحكام تحقق لمعتنقها أكبر قدر من الرضا، بقدر حمله للمفاهيم الصحيحة، وبقدر تسييره لأعماله بحسب تلك الأحكام الشرعية (الأوامر والنواهي) بقدر التزامها (المفاهيم، والأحكام) يتحقق الرضا الدائمي، الذي هو السعادة في الدنيا، ويتحقق الفوز في الآخرة، بالنجاة من عذاب جهنم، والفوز بالجنة. وكلما ازداد الالتزام بالمفاهيم والأحكام ازداد الرضا وارتفعت نسبة السعادة، بغض النظر عن حال الإنسان من بؤس وفقر وجوع وعطش وألم وشدة وغيرها من أنواع الابتلاءات التي تكون خيراً له، وتقع من نفسه موقع الرضا والقبول والتسليم المطلق، ذلك أن الحياة الدنيا حياة عمل وابتلاء، قال سبحانه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)، وقال عز من قائل: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وقال عز وجل: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، ويبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه رقةٌ خفف عنه، وإن كان في دينه شدة زيد عليه، وأشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل.

 

فلا يظنن أحدٌ أنه هنا في هذه الحياة الدنيا ليأكل ويتمتع ويبني القصور والبيوت، إنما كل هذا تحصيل حاصل، وليس هو الغاية من الوجود، وقد ضمن الله سبحانه لكل إنسان رزقه، فلا يجوز أن يجعله الغاية من الوجود، أو القضية المصيرية لوجوده، بل القضية المصيرية لكل إنسان هي رضوان الله تعالى، لأن برضوانه سبحانه يكونُ الفوزَ، وبغضبه وعدم رضوانه يكون الخسرانُ المبين. وبرضوانه تكون السعادة، وبغضبه يكون الشقاء.

 

يقول الحق جلا وعلا: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ  إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، ويقول أيضاً: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)، فالإنسان لم يخلق عبثاً، وكل واحد من أفراد هذا الجنس البشري لم يخلق عبثاً، بل إنك أيها الإنسان كريم على الله تعالى، ولقد كرّمك بأمور كثيرة، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، فاعرف من خلقك، واعرف لماذا خلقك وماذا يريد منك، واعرف مصيرك ومرجعك، لتعرف بعدها مقاييسك الصحيحة في هذه الحياة الدنيا، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) فعليك بهدى الله (قُلْ إِنَّ  هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى) (قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، فمن اتبع هدى الله فإنه لا يضلّ في هذه الحياة الدنيا، ولا يشقى فيها، ومفهوم المخالفة المستفاد من الشرط في الآية يعني أن من لم يتبع هدى الله، أو اتبع غيره، فإنه يضل ويشقى، وهذا سبب شقاء كثير من البشر اليوم، لأنهم لم يتبعوا هدى الله، بل اتبعوا ضلال عقولهم وأهوائهم وشهواتهم.

 

قلنا إن الحل العقلي الصحيح الوحيد للعقدة الكبرى هو في رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وسنرى في الصفحات التالية كيف أن حلّ العقدة الكبرى عن طريقها يلزم منه حل العقد الصغرى كلها عند الإنسان.

 

قلنا إن وجود الإنسان في هذه الأرض، في هذه الحياة الدنيا مرتبط بأمرين: مرتبط بما قبل الحياة الدنيا، ومرتبط بما بعدها. وله علاقة مع ما حوله بما قبل الحياة، وله علاقة مع ما حوله بما بعد الحياة.

 

الأمر الأول ينشأ عن الخلل فيه عقدة الاستقلال، والأمر الثاني ينشأ عن الخلل فيه عقدة البعدية أو البعدينية. والأمر الثالث ينشأ عن الخلل فيه العقد الصغرى.

 

فالإنسان بوصفه إنساناً متصل مع ما يحيط به من إنسان وكون وحياة، يتعامل معها، وهو مع ما يحيط به متصل بما قبل الحياة الدنيا، وهذه الصلة هي صلة الخلق والإيجاد، وهو كذلك مع ما يحيط به متصل بما بعد الحياة الدنيا، وهذه الصلة هي صلة البعث والنشور، وينشأ عن الصلتين الصلة الثالثة وهي صلة الأوامر والنواهي، فهذه الصلة اقتضتها الصلة الأولى، ويتحدد مصير الإنسان في صلة البعث والنشور على صلة الأوامر والنواهي.

 

فالإنسان موجود في هذا الكون ليتلقى الأوامر والنواهي من الله تعالى ويسير بحسبها، وإن لم يفعل وقع في ثلاثة شرور:

 

الأول: شر عقدة الاستقلال.

الثاني: شرور العقد الصغرى.

الثالث: شر عقدة البعدية

 

ونبدأ بهذه العقد الكبرى، وكيف حلها الإسلام.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة التاسعة

 

 

أولاً: عقدة الاستقلال

 

وهي المتعلقة بصلته بما قبل الحياة الدنيا، فإنّ الإنسان منذ بَدْءِ إدراكه في هذه الدنيا يبحث عن ذاته، ليعرف من هو؟ وكيف جاء؟ ومن الذي أتى به إلى هذه الدنيا؟ يبدأ بسؤال والديه، يبدأ برحلة البحث عن الحقيقة منذ طفولته، فمن الناس من يصل إلى الحقيقة، ومنهم من يعيش ويموت دون أن يصل إلى الحقيقة.

 

والحقيقة القاطعة التي لا شك فيها، أنّ هذا الإنسان مخلوق لخالق، وهو الله تعالى، وأنه تعالى خلقّه من العدم، واستعمرَه في هذه الأرض، واستخلفَه فيها، وحمّله الأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، بطبيعة خلقه.

 

فإن عرف الإنسان هذه الحقيقة عرفَ ذاتَه ونفسَه، وأدركَ حجمَه الحقيقي، فلا يستقل عمّن خلقه، ولا يُديرُ ظهرَه إليه، ولا يتمرد عليه، ولا يجعل من نفسِهِ إلهاً من دونه، يشرع لنفسه ما تقوده إليه أهواؤه، يحلل ويحرمٌ بدعوى الحريات، بل إن فكرةَ الحرية الشخصية تعني أنّ الإنسان يجعل من نفسِه إلهاً، وهذه مصيبة من لم يصل إلى الحقيقة، يحسّ بعقدة الاستقلال، الاستقلال عن خالقه، وهو- أي الإنسان- أعجزُ من أن يخلقَ ذبابةً، بل إنه أعجزُ من أن يستطيع بما أوتي من قوة أن يستنقذ ما سلبته إياه الذبابة.

 

إن عقدةَ الاستقلال سببٌ كبيرٌ جداً ومهم في إيقاع الإنسان في الشقاء، فإنه يرى خطأه في كل شيء يقوم به، بل إنه يفقد الغاية من أعماله في مرحلة من مراحل حياته، فلا يحسّ بطعم للحياة.

 

إن عقدة الاستقلال توقع صاحبها في صراع مرير بين دوافعه ورغباته وبين عقله، فإن الإنسان حمل الأمانة في هذا الكون بهذا العقل الذي وهبه الله سبحانه وتعالى إياه، ولكن لعدم إدراك واقع عقله، وعدم إدراك مجال هذا العقل نتج أن اغترّ الإنسان بهذا العقل، فلم يجعل له حدوداً، وأخذ يتصرف في هذا الكون على أنه هو وحده الإله، ولا حق لإله غيره بأن يهديه أو يرشده أو يدلّه على الطريق الصحيح.

 

إن عقل الإنسان لا يعمل إلا ضمن شروطه، من توافر الأركان الأربعة لتفكيره، وهي الواقع والحواس والدماغ الصالح للربط والمعلومات السابقة، فإن فقد أي ركن من هذه الأركان الأربعة فقد التفكير، وعليه فإن الإنسان محدود في تفكيره.

 

وكذلك فإن عقل الإنسان يتصف بصفات الاختلاف والتفاوت والتناقض والتأثر بالبيئة، فهو قد يحكم بحكمين مختلفين على نفس الواقع في زمانين مختلفين، أو في مكانين مختلفين، وكذلك قد يحكم حكمين متفاوتين على نفس الواقع، بل إن الإنسان كلما تقدم به العمر واتسعت مداركه أكثر، وازدادت معلوماته السابقة، واتسعت خبراته أحسّ بأن حكمه قد صار أقوى أو أدق من ذي قبل، وقد يحكم بحكمين متناقضين على نفس الواقع بتغير الزمان أو المكان أو المعلومات السابقة، سواء على مستوى الشخص الواحد، أو على مستوى تعدد الأشخاص، ثم إن حكم الإنسان يتأثر بالبيئة المحيطة به، لأنها تفرض عليه نمطاً معيناً من أنماط التفكير، فيكون أسيراً لهذا النمط ما دام في هذه البيئة.

 

ثم إن حكم الإنسان على أي واقع لا يتجاوز واحداً من اثنين: بيان حقيقة الواقع وماهيته، فيصف شكله ولونه وحجمه وكثافته ومكوناته، والثاني يحكم عليه بموافقته طبعه أو منافرته له.

 

  هذه الصفات للعقل تمنع الإنسان من حق اتخاذ قرار مستقل عن خالقه، فلا يملك العقل إمكانية للحكم على الأشياء والأفعال من جهة أنها تؤخذ أم لا تؤخذ، يتعاطى معها أم لا يتعاطى، فليس أمر التعامل مع الشيء أو القيام بعمل مما يدرك العقل عاقبته ونتيجته، ولا ما فيه من خير أو شر، فكيف له أن يعلم إن كان فيه ثوابٌ من الله تعالى أو عقاب؟

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة العاشرة

 

 

إن الإنسان بوصفه إنساناً يتصف بصفات العجز والنقص والمحدودية والاحتياج، واحتياجه ليس مقصوراً على حاجته للطعام والشراب والهواء والنوم وغيرها، بل إنه يحتاج أكثر ما يحتاج إلى النظام، النظام الذي يسير بحسبه في إشباع حاجاته العضوية وغرائزه، وتنظيم علاقاته، علاقته مع نفسه بالمطعومات والملبوسات والأخلاق، وعلاقته مع خالقه في الدينونة له بالعبودية، وعلاقته مع غيره بالمعاملات والعقوبات، وتنشأ عن ذلك أنظمة الحياة المختلفة، من نظام سياسي ونظام اقتصادي ونظام اجتماعي، وغير ذلك، فالإنسان بوصفه إنساناً عاجز عن وضع نظام يسير بحسبه، ولعل تجربة النظام الرأسمالي المعاصر، الذي لم يؤدّ إلا إلى الشقاء لمن طبق عليهم، والويلات والدمار والخراب ونهب ثروات البشرية، يعيش نفر من أصحاب رؤوس الأموال على دماء وعرق الملايين من البشر، ولم يبق نوعٌ من الشذوذ لم تعرفه البشرية جراء تطبيق هذا المبدأ، وتطبيق فكرة الحريات. هذه التجربة بالنظام الرأسمالي المعاصر خيرُ دليلٍ على عجز الإنسان عن وضع نظام يسعده في حياته.

 

جاء في قول ربعي بن عامر لرستم ملك الفرس: (جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة..) يقول ربعي بن عامر رضي الله عنه لواحد من أكبر ملوك الأرض آنذاك، ملك الأرض تحت قدمه، أخذ منها ما شاء من بهرجها وزخرفها، وهو يرتدي ثياباً رثّةً بالية، يقضي يومه على تمرة أو تمرات يقمن صلبه، ولكنه كان يخاطب ذلك الملك كما لو كان الملك عبداً عنده، أو يخاطب شخصاً عادياً لا يعني له الشيء الكثير، نعم لقد اتسعت الدنيا أمام ناظريه، بينما ضاقت أمام من ملكها بحذافيرها، والفرق واضح بين، إنه الإسلام.

 

إن من اعتنق عقيدة الإسلام والتزم بما انبثق عنها من أحكام وأفكار ومقاييس وأنظمة نظر إلى الدنيا من علٍ، بنظرة شاملة ثاقبة، يراها واسعة على قلة ما يناله منها، استقلالية الإنسان عن خالقه توقعه في ضيق الدنيا، فلا يراها إلا بمقدار ما يتحقق له منها من مصالح ومنافع زائلة فانية.

 

والنظرة الشاملة الثاقبة للحياة الدنيا لا تتأتى إلا لمن آمن بالله سبحانه وتعالى وبرسله، وبأركان الإيمان، وامتثل أمر الله تعالى، اسمع قول الله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ  بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).

 

إن من ابتعد عن الله تعالى وعن هداه كان غافلاً، فمن لا يجب عن أسئلة العقدة الكبرى الإجابة الصحيحة المقنعة، والتي هي في الإسلام والإسلام وحده يكنْ غافلاً، ويفقد وظيفة السمع الذي أوتيه، ويفقد وظيفة البصر الذي أوتيه، ويكنْ بعيداً عن الفهم الصحيح وعن الرؤية الثاقبة، وقد شبههم الله تعالى بالأنعام، بل بأضلّ من الأنعام، لأن الأنعام تسير بحسب نظام مفروض عليها لا تستطيع تجاوزه، بخلاف الإنسان الذي ترك الله سبحانه له أن يختار نظامه، فمن لا يختر النظام الذي ارتضاه الله سبحانه فقد ضل وشقي وكان غافلاً، ومن اختاره اهتدى وسعد وفاز.

 

إن واقع الإنسان أنه ليس لنفسه، ليسأل كل إنسان نفسه: من أنا؟ ولمن أنا؟ هل أنا لنفسي؟ إن كان جوابه بالإيجاب فليسأل نفسه عن كل خلية في جسمه ماذا يعرف عنها وعن علاقاتها مع الخلايا الأخرى ومع بقية جسمه؟ وماذا يملك من هذه الخلايا؟ إن رأى نفسه ضمن مساحة ضيقة قليلة من الإرادة جعل من نفسه إلهاً، ولكنه لا يملك أن يجلب لنفسه نفعاً، أو يدفع عنها ضراً.. (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).

 

فمن نحن؟ نحن: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فمن كانت هذه بدايته وتلك نهايته، فماذا يملك من أمره؟ وماذا يملك من شأنه؟ فليعد الإنسان إلى صوابه، وليعرف حقيقته، وليعرف أنه ليس لنفسه، وليضع ذاته ونفسَه تحت أمرِ الله تعالى، وليعرف مكر الشيطان به ليجتنبه ويبتعد عنه. فليدرك الجزء الأول من جزء الآية: (إنا لله) ليعرف ذاته، وليدرك الجزء الثاني ليقرر مصيره، ونوع مصيره، وينجو بنفسه. (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور).

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الحادية عشرة

 

 

ثانياً: عقدة الشقاء والجري وراء السعادة

 

يسعى الإنسان في هذه الحياة الدنيا إلى تحقيق السعادة، ولكن للسعادة مفهوماً لا يصل إليه إلا من ارتضى عقيدة الإسلام، واعتنق مفاهيمها ونفّذ أحكامها، وسار على مقاييسها.

 

هل سعادة الإنسان في غناه؟ أو: هل سعادة الإنسان فيما امتلك من أراض وعقارات وسيارات وبيوت وخدم وطعام وشراب ولباس وراحة؟ هل سعادة الإنسان في نيلِ المراكزِ والمناصبِ وتحقيق التفوّق وضرب الأرقام القياسية؟ هل سعادة الإنسان في إشباع حاجاته وغرائزه وتلبية كل رغباته؟ وهل سعادةُ الإنسانِ في تحقيقِ حريتِه الشخصيةِ، وتحقيقِ حريةِ التملك، وتحقيقِ حرية الرأيِ، وتحقيق حريِة الفكرِ والمعتقدِ؟

 

ظن الغرب أن السعادة في ذلك كله، أو بعضه، فسعوا إلى اكتساب المال بشتى الطرق، حتى أربوا فيه على الغاية، وامتلكوا ما لم يكونوا يحلمون به، ولكن بعدما امتلكوه ماذا وجدوا؟ هل حققوا السعادة؟

 

لا، وهذه إجابتهم.

 

ظنوا أن السعادة هي في ممارسة الجنس، فتفننوا في ممارسته، بكافة الأنواع والكيفيات، واستمرار الإشباع، وإقامة الحفلات الخاصة به، وجربوه مع كل الأجناس، فماذا وجدوا؟ وإلى أين وصلوا؟

 

لقد وصلوا إلى الشذوذ، فلم يعد الإشباع الطبيعي يشبعهم أو يرضيهم، بل لا بد من الإشباع الشاذ، ولا بد من ممارسة العنف، وممارسة مختلف أشكال التسلط حتى يشبعوا، وليتهم شبعوا.

 

ظنوا السعادة في الشهرة، فسعوا إليها بكل وسيلة ممكنة، حتى لم يتركوا باباً من أبواب الفسق والفجور والشذوذ إلا وطرقوه ودخلوا فيه، الغناء والرقص والموسيقى والإثارة، الرياضة، جعلوا تحطيم الأرقام القياسية غاية وهدفاً لأنهم افتقدوا الإحساس الطبيعي بالحياة، وفقدوا الإحساس بالمتعة، وما حسبوا أن المتعة في الحياة الدنيا مؤقتة، ولا يمكن الاستمرار فيها، لإن الاستمرار فيها يعني فقدان طعمها، خذ أيّ شيء يحبه الإنسان، من أكل أو شرب أو استمتاع، أو أي عمل من الأعمال، واجعل صاحبه الذي يحبه يمارسه أكثر من المعتاد، فمثلاً شخص يحب اللحم، أطعمه لحماً عدة مرات في اليوم لأسبوع كامل، إنه بلا شك سيفقد طعم اللحم، وسيفقد الشوق إليه، ويصبح لا قيمة له عنده، أي تقل رغبته فيه، وربما تنعدم، انظر إلى مقياس الثمن، أنهم يقيسون الثمن بمقدار ما في الشيء من إشباع حاجة أو تلبية رغبة، ولكنهم لا يقيسونها في بداية الإشباع، بل في نهايته، فلا يقدرون ثمن الرغيف بالنسبة للجائع، أي ليس بالنسبة للرغيف الأول، بل إن من يأكل ثلاثة أرغفة مثلاً يقيسون ثمن الرغيف بالنسبة له عند الرغيف الثالث أو الرابع، أي عندما يقلّ مستوى الرغبة فيه. فالإكثار من الإشباع بقصد الإشباع يفقد الإشباع معناه، ويفقد الشخص الاستمتاع به، ويفقده الرغبة فيه، ونظراً لأن الأمر فطري وغريزي، ويثور هذا الدافع بوجود مثير ذهني أو خارجي، فإن الإنسان يندفع لكي يشبع، ولكن بمحاولة تغيير في الطعم، فيغير في كيفية الإشباع، وفي شكله وهيئته، وربما في زمانه ومكانه، وغير ذلك من الاحتمالات الممكنة.

 

فهل بعد هذا تصلح المتعة أن تكون غاية وهدفاً في الحياة الدنيا؟

 

انظر إلى المبدأ الرأسمالي الذي جعل معتنقه يضع مثله العليا ومقاييسه، انظر إليه كيف جعل معتنقه يصل إلى نتيجة اليأس من الحياة، حيث اكتشف أن ما سعى إليه طول حياته ليس هو الذي يريد. فيندم حين لاتَ مندم.

 

نعم هذه هي النتيجة، اختلاف النتيجة بين ما يريده فعلاً وبين ما يسعى إليه، فهل يستطيع الإنسان أن يحدد وحده ما يريده؟

 

الجواب قطعاً: لا

 

لماذا؟

 

لأن ما يريده مرتبط ارتباطاً وثيقاً غير قابل للانفصام مع ما خلق لأجله، وهو عقدته الكبرى في أسئلتها الثلاثة، تدفعه لأن يصل بعقله إلى إجابة عقلية مقنعة وصحيحة للأسئلة الثلاثة، من أين جئت؟ ولماذا؟ وإلى أين؟

 

الذي خلق لأجله، والذي يريده الإنسان، درى ذلك أم لم يدر، هو السير على نظام الله تعالى الذي أنزله إليه على رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثانية عشرة

 

 

الذي خلق لأجله، والذي يريده الإنسان، درى ذلك أم لم يدر، هو السير على نظام الله تعالى الذي أنزله إليه على رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

قال سبحانه وتعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)، (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، الذي خلق لأجله الإنسان هو اتباع هدى الله تعالى، ومن اتبع هداه فلا يضلّ في هذه الحياة الدنيا، ولا يشقى فيها، ومن أعرض عن هدى الله فإن له معيشة ضنكاً في الدنيا، وهذا هو الضنك الذي تعانيه البشرية جراء تطبيق غير الإسلام، والسير على غير هداه.

 

ليست السعادة في نيل متاع الدنيا الزائلة، وليس الشقاء في فقدانها أو فقدان شيء منها، كم عدد المنتحرين ممن ظنوا السعادة في متاع الدنيا!! وكم سعيداً ومنجزاً للإنجازات العظيمة ممن ابتلوا بفقدان شيء أو أشياء من متاع الدنيا، وهذه بعض الأمثلة ممن سجنوا فأنجزوا في سجنهم ما لم ينجزوه في حريتهم:

 

أ‌- سجن الإمام أحمد بن حنبل فصار إمام السنة.

 

ب‌- سجن السرخسي في قعر بئر فأنتج كتابه المبسوط في الفقه، عشرين مجلداً.

 

ت‌- أقعد ابن الأثير فصنف جامع الأصول.

 

ث‌- وسجن سيد قطب فأنتج (في ظلال القرآن).

 

ج‌- سجن عطا خليل أبو الرشتة فأنتج كتابيه: تيسير الوصول إلى الأصول، والتيسير في أصول التفسير.

 

اسمع قول الله تعالى حول ثلاثة أشياء: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) أولها ما عندكم ينفد، فلا يصلح أن يكون غاية، ولكن ما عند الله باق، فهو الذي يصلح أن يكون غاية، وثانيها: ثواب الصبر، والصبر هو حبس النفس على ما تكره، والصابرون يجزون أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. وثالثها: الحياة الطيبة لمن آمن وعمل صالحاً، ذكراً كان أو أنثى.

 

لقد فطر الإنسان على حب الشهوات، مع أن الشهوات هي الطريق إلى النار، روى الإمام مسلمٌ عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، ومع أنه قد زُيِّنَ للإنسان الشهوات من النساء والبنين وغير ذلك مما ذكرته الآية الكريمة، لكن الخيرَ من ذلك هو ما في الجنات يوم القيامة، وهي جنات تجري من تحتها الأنهار، والخلد فيها، والأزواج المطهرة، وفوق ذلك كله رضوان الله تعالى، قال سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)

 

ألا يسعى الإنسان إلى تحقيق الطمأنينة الدائمة؟ (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

 

ألا يسعى الإنسان إلى انشراح صدره ورضا نفسه وطمأنينة قلبه؟ (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء).

 

ألا يخطر ببال أحد أن يكون المال سبب شقاء؟ أو أن يكون الولد سبب شقاء؟ انظر ماذا قال الله تعالى عن المنافقين: (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ).

 

روي عن مقاتل في سبب نزول أول سورة طه: أنّ أبا جهل والنضر بن الحارث قالا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنك لتشقى بترك ديننا، وذلك لما رأياه من طول عبادته واجتهاده، فأنزل الله تعالى: (طه ، مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى).

 

إن التخلص من عقدة الشقاء، والسير في طريق السعادة، لا يكون إلا بالإجابة العقلية الصحيحة المقنعة عن السؤال الثاني من أسئلة العقدة الكبرى: لماذا؟

 

ومع كل ذلك، ومع وجود السعادة في الدنيا باتباع رضوان الله، لكن السعادة الحقيقية إنما هي في الآخرة، وذلك هو الفوز الحقيقي، لأن فيه الخلود في النعيم المقيم: (يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

 

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثالثة عشرة

 

 

 ثالثاً: عقدة البعدية أو البعدينية

 

هذه العقدة مرتبطة بالسؤال الثالث من أسئلة العقدة الكبرى عند الإنسان: إلى أين؟ والتي يكون جوابها عن مصيره بعد الموت، وأنه عائد إلى الله تعالى ليسأله ويحاسبه عن أعماله في الدنيا، فعند الإنسان تعلق وارتباط وثيق بما بعد الحياة الدنيا، ارتباط بين دوافع السلوك لديه وبين الغاية، والغاية لا تنفصل عن الغاية الكبرى والبعيدة، بل إن الغاية القريبة إن لم ترتبط بالغاية البعيدة أي بما بعد الحياة الدنيا تصبح لا معنى لها ولا طعم، لأنه في كل مرة يحقق فيها الإنسان شيئاً، وينجز أمراً، ويشبع دافعاً، يثور لديه السؤال: وماذا بعد؟ أو بالعامية: وبعدين؟ فيفقد طعم الفوز والنجاح، ويفقد طعم الإشباع ويفقد طعم الحياة، ويقع بين براثن اليأس، لأنه ليس هذا الذي يريده، لإن مجرد الإشباع، ومجرد الإنجاز، ومجرد النجاح، ومجرد الفوز، ومجرد التحقيق لأي شيء لا يعني إلا الإشباع، ولا يعني إلا الإنجاز، ولا يعني إلا النجاح، ولا يعني إلا الفوز، ولا يعني إلا التحقيق للشيء، وينتهي طعمه والإحساس به حين انتهاء تأثيره، وانتقال الإنسان من حالة تأثير التحقيق لأي شيء مما سبق، إلى غيره، فإنه ينسى ذلك الطعم، ويفقده.

 

ولكن ما السبيل إلى المحافظة على طعم الإشباع والإنجاز والنجاح والفوز والتحقيق لما يريد؟

 

السبيل الوحيد هو في إجابة السؤال الثالث من أسئلة العقدة الكبرى: إلى أين؟ إجابةً عقلية صحيحة مقنعة.

 

والإجابة الصحيحة هي في الركن الخامس من أركان الإيمان، الإيمان باليوم الآخر، والعمل بمقتضى هذا الإيمان، فإن وجد هذا الإيمان، فهنا يصلح الإنذار: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، فمن يخفْ أن يحشرَ إلى ربه يوم القيامة يتخذ الله تعالى ولياً له، ويجعله شفيعاً له، يرج رحمته ويخش عذابه، فيمتثل أمره، ويُرجَ منه أن يكون تقياً، كما دل على ذلك آخر الآية المفيدة للترجي المتحقق: (لعلهم يتقون) أي أن التقوى هي ثمرة من ثمار الخوف من الحشر في اليوم الآخر، والتقوى امتثال أمرِ الله تعالى في الحياة الدنيا، واجتناب ما نهى عنه. وأورد الله سبحانه وتعالى أمثالاً من الأمم السابقة وكيف عُذِّبَ المكذبون منهم في الدنيا، وذكره ليكون آيةً وعبرة لمن يخاف عذاب الآخرة، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ  ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ)، فمن يخاف عذاب الآخرة أولى وأجدرُ بالاعتبار وأخذ العظة من الأمم السابقة وما حاق بهم من عذاب أليم في الدنيا، وما ينتظرهم من عذاب شديد في الآخرة، فلا يقع في ما وقعوا فيه من المعصية للرسل والتكذيب لهم.

 

بهذا يهدأ سؤال: وماذا بعد؟ أي تحلُّ عقدة البعدية، فلا يتحوّلُ رضاه بعد تحقيق شيء إلى قلق واضطراب تثيرها تساؤلات: ماذا بعد؟ ولكن، كيف هذا؟

 

إن الإيمان باليوم الآخر وما فيه من أهوال وحشر وحساب، ثم الثواب والعقاب، يجعل الإنسان يجيب عن سؤال: لماذا؟ ليدرك أن هناك أوامرَ عليه التزامُها والقيامُ بها، وأن هناك نواهيَ عليه اجتنابها والابتعاد عنها، فإن فعل والتزم الأمر واجتنب النهي، استمر رضاه، ودامت طمأنينته، والسبب هو أنه قد ادّخر عملاً صالحاً يرتجي ثوابه يوم القيامة، ويكون قد أرضى ربه وخالقه، فيزداد طمأنينة ورضا، ويستمرّ رضاه ما دام يعمل عملاً صالحاً، وتمتد طمأنينته ما دام يجتنب ما نهى الله عنه. اسمع قول الله تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ  فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) من يسلمْ وجهَه لله وهو محسنٌ فإن له الأجر في الآخرة، وكذلك لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون لا في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، ومثلها عشرات الآيات التي تعد بالأجر عند الله تعالى لمن آمن وعمل صالحاً، وأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الرابعة عشرة

 

 

وفي الآخرة لقاء الله تعالى، ولكن كيف يلقاه الإنسان؟ (فَمَن كَانَ يَرْجُو  لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) يلقاه بالإيمان النقي والعمل الصالح.

 

(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ  أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَن  يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) فماذا يريد الإنسانُ غير الفلاح والفوز؟ والتقوى التي تعني اتقاء غضب الله تعالى، واتقاء عذابه يوم القيامة سبيلٌ لليسر والسهولة في الحياة الدنيا، وكذلك التوكل على الله تعالى، قال عز من قائل: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ  مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ  بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا). وفي السورة نفسها ثمرة من ثمار التقوى في الدنيا، يقول عز وجل: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).

 

والإيمان والعمل الصالح يجعل صاحبه من خير البرية، من خير الخلق، ويرضى عن الله تعالى في ما آتاه وأنعم عليه، وما قدّره له، ويرضى الله تعالى عنه، انظر إلى قول الله سبحانه في سورة البينة: (} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ  فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).

 

إن للبيئة التي يعيشها الإنسان دوراً كبيراً يعينه على الإيمان والعمل الصالح، وكذلك للعرف العام والرأي العام، فإن كان المجتمع إسلامياً بأفكاره ومفاهيمه ومشاعره وأنظمته كان الإنسانُ أقدرَ على الانضباط بحسب مقتضيات الإيمان والعمل الصالح، لأنه يجد كل ما حوله يلتزم الإيمان والعمل الصالح، وإن كانت البيئة المحيطة به لا تسير على هذا، فإنها توقع الإنسان فيها في العنت والمشقة حين التزامه بمقتضيات الإيمان والعمل الصالح، ذلك أنه يجد نفسه غريباً عن بيئته ومجتمعه، وخاصة في زماننا هذا وقد خلت مجتمعات بلاد المسلمين من الحكم بالإسلام، فإن المسلم المؤمن النقي التقي قليل الوجود، ويحسّ بالغربة بين أهله ومجتمعه، ويحتاج إلى جهد أكبر لكي يستمر ملتزماً بمقتضيات الإيمان والعمل الصالح، والاستمرار على التقوى. فالقابض على دينه في هذا الزمان كالقابض على الجمر.

 

ووجود البيئة على هذه الحالة تضيف عبئاً ثقيلاً على المؤمن النقي التقي، بأن عليه أن يعمل لتغيير هذا المجتمع، لينقله إلى أن يصبح بيئة إسلامية نقية، تقيم شرع الله تعالى، وتجعل التقوى أساساً لحياة الفرد والمجتمع، الحاكم والمحكوم، وتطبق شرع الله تعالى، وتقيم حدوده، فيتقوى كل فرد من الأفراد بإخوته في مجتمعه في استحضار الغاية البعيدة الكبرى من الأعمال، لتحصل الطمأنينة الدائمة لكل فرد من أفراد المجتمع.

 

إن من مقتضيات الإيمان والعمل الصالح الإحساسَ بالأمن، والطمأنينة والرضا الدائم، يقول سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ  وَهُم مُّهْتَدُونَ).

 

إن الإنسان الذي يحلُّ عقدته الكبرى حلاّ عقلياً صحيحاً ، ويسير بحسب ما يقتضيه هذا الحل، يجد الراحة ولو كان متعباً، والرضا ولو كان ما اعتراه مكروهاً، ويصبر مطمئناً على ما يصيبه، ولا يفرح بما أوتي من متاع الدنيا الزائل، بل إنه يشكر الله تعالى على ما أنعم عليه، ويحمده كما ينبغي لله أن يحمد، هذا الإنسان بهذه الصفات يملك نفساً مطمئنة، راضية، مرضياً عنها، وثوابه في الآخرة عظيم، إنه في جنة عالية في مقام عالٍ، عند مليك مقتدر: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي).

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الخامسة عشرة

 

 

رابعاً: عقدة الغيب

 

وهي عقدة ليست سهلة، بل يمكن القول إنها كبيرة نسبياً، بالنسبة لعقد أخرى أصغر منها، لكنها صغرى بالنسبة للعقدة الكبرى، فهي فرع عنها، وحلها مرتبط بحلها، لكنها تأخذ حيزاً كبيراً في حياة الإنسان، والسبب في كونها عقدة هو الارتباط الوثيق والشديد والحتمي بين الإنسان والغيب، لا بد أن يحدّد الإنسان صلته بالغيب، وإلا شكّل له مصدر قلق دائمياً، ومصدر خوف، وربما كان سبباً في أوهام كثيرة ومتعددة تسيطر على الإنسان، فتفقده الإحساس بالأمن والطمأنينة والرضا، وتجعله يعيش في قلق دائم، وقد يعبّر عنه كثيراً بعبارة (الخوف من المجهول).

 

وقد حلّ الإسلام هذه العقدة حلاً متميزاً، يحقق للإنسان الراحة والطمأنينة، فأوجب على معتنق هذا الحل أن يؤمن بأركان الإيمان:

 

-       الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

-       الإيمان بالملائكة

-       الإيمان بالرسل

-       الإيمان بالكتب السماوية

-       الإيمان باليوم الآخر

-       الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.

 

فالركن الأول الذي هو الإيمان بالله، هو الحل لعقدة الغيب، فصلة الإنسان بالغيب محصور بالله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يكون لنا صلة بغيره من المغيبات، فهو أولاً عالم الغيب، وهو أخبرنا بما أراد من الغيب لحكمة أرادها سبحانه: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء).

 

وهو سبحانه الخالق لكل شيء، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، بيده وحده النفع والضر، وبيده وحده الخير والشر، وبيده وحده كل ما يريده الإنسان، وهو المانع وحده لكل ما يخافه الإنسان، فهو الملجأ، وعنده المنجى، وهو المستعاذ به من كل شر، علمنا سورتين قصيرتين نتعوذ بهما من كل ما نخاف ونحاذر، سورتي الفلق والناس، نتعوذ بهما من كل شر، ومن كل ما نخاف منه.

 

فلا يبقى عند الإنسان خوف من مجهول، لأن كل معلوم ومجهول بيد الله سبحانه وتعالى، وليس هناك من قوة أو قوى خفية غير الله سبحانه وتعالى، فلا نخاف سواه، وليس هناك أرواح تشكل خطراً علينا، ولا أشباح تظهر لنا من حيث لا نحتسب، بل إنه لا يصيب الإنسانَ إلا ما كتبه الله له، فيطمئنّ أنه ليس لأحد سلطان عليه غير الله تعالى، وليس أحد يملك له نفعاً أو ضراً إلا بإذن الله تعالى، فما دام الله سبحانه وتعالى أراد لي ما أراد من خير أو شرّ، وحدّد لي الموقف الصحيح مما يقع من خير أو شر، فإن الخير يقع خيراً عليّ، وإن الشرّ يقع خيراً عليّ: (عجباً لأمر المؤمن، كل أمره خير له، إن أصابته سراءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).

 

ومما طلب منا الإيمان به الإيمان بالملائكة، وأنهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وأن لهم أعمالاً يقومون بها، ومنها حماية الناس، والاستغفار للمؤمنين، ويسجلون على الناس أعمالهم، وينفذون أوامر الله تعالى.

 

والإيمان بالرسل، فقد أخبرنا الله تعالى عن إرساله رسلاً كثيرين إلى الأمم السابقة، وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليست بدعاً من الرسالات، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل.

 

والإيمان بالكتب السماوية، وأنه تعالى أرسل رسلاً لهداية الناس، وأرسل معهم كتباً فيها شريعة الله، ليلتزمها البشر، وأن كتاب محمد صلى الله عليه وسلم وسنته ليست بدعاً من الكتب والرسالات.

 

والإيمان باليوم الآخر، وهو الصلة بما بعد الحياة الدنيا، وفيه البعث والنشور، وهو يوم الحشر، ويوم الحساب، ويوم الجزاء، ويوم الدين، ويوم الفوز بالجنة للمحسنين، والهلاك والخسران للكافرين والمسيئين، فيتعلق الإنسان بهذا اليوم، ويعمل في دنياه بما أمر الله تعالى، ويجتنب ما نهاه عنه، ليفوز في ذلك اليوم، (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)

 

تبقى مسألة مهمة، تشكل عقدة عند كثير من أبناء المسلمين اليوم، وهي مسألة الجن، وللأسف أن هناك من علماء اليوم يسهمون بشكل كبير في زرعها في نفوس الناس، بل إن من جامعات بلاد المسلمين تدرس الفكرة في مناهج الفكر الإسلامي، ونجد الفكرة أيضاً عند حملة الشهادات العليا خاصة حملة شهادات الشريعة، وتسهم كثير من وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة في تثبيت هذه الفكرة في أذهان الناس، وصارت عقدة عند كثير من الناس، ومهرباً لمن يعانون من مشاكل عائلية أو صحية أو نفسية، وهاجساً يطارد الكثير من الشباب رجالاً ونساءً اليوم.

 

ولقد قامت العقيدة الإسلامية بحلّ هذه العقدة، وتحرير الإنسان من أوهامها، بأساسين مهمين:

 

1-             الأساس الأول: التفريق بين عالم الغيب وعالم الشهادة.

2-             الأساس الثاني: كيفية التفكير عند الإنسان.

 

فمن جهة الأساس الأول كان الجنُّ من عالم الغيب، وتلقينا الخبر عن وجوده بالخبر اليقيني القطعيِّ في القرآن الكريم، ولولا أن الله تعالى أخبرنا عن وجودهم عن طريق رسله لما علمنا بوجودهم، لأنهم من عالم الغيب، وما داموا من عالم الغيب فإن الصلة بهم تحدّدها العقيدة الإسلامية، فلا صلة لنا بشيء من عالم الغيب إلا بالله سبحانه وتعالى، نتوجه إليه ونسأله ونستجير به ونلجأ إليه، ونحتمي به، ونرجو رضوانه ونخشى غضبه وعذابه. إضافة إلى أن الله تعالى ذكر في كتابه الكريم أن الصلة الوحيدة بيننا وبين الجن، ومنهم الشياطين، هي في أن الشياطين يوسوسون للبشر بقصد صرفهم عن شريعة الله تعالى، هذا من جهة الجن والشياطين، أما من جهة البشر فإن صلة البشر بهم هي أنهم يستجيبون لوسوستهم فيطيعونهم فيضلون، أو لا يستجيبون لوسوستهم، فيحمون أنفسهم من الضلال، وليس للجن والشياطين أيُّ سلطان على البشر، بنص صريح القرآن، في قوله تعالى في سورة إبراهيم: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ  فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ  فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) ففي الآية الكريمة ينقل الله سبحانه وتعالى عن الشيطان قوله: وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، ولو كان له سلطان آخر لذكر، ولو كان هذا القول غير صحيح لكذبه الله سبحانه وتعالى، فهذه الصلة الوحيدة بيننا وبين الجن والشياطين، وواجب المسلم أن يتقي وسوسة الشيطان، بعدة أمور: الاستمساك بهدي الله تعالى وعدم الحيد عنه قيد أنملة، والاستعاذة بالله تعالى من الشيطان ووسوسته، وتلاوة المعوذتين، وإدراك واقع الوسوسة ليتجنب أثرها عليه بالاستعاذة والوقاية.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة السادسة عشرة

 

 

نواصل حديثنا في عقدة الغيب، وقد تحدثنا عن الأساس الأول، الذي هو التفريق بين عالم الغيب وعالم الشهادة.

 

أما من جهة الأساس الثاني، الذي هو كيفية التفكير عند الإنسان، فإن تفكير الإنسان محصور فيما يقع عليه حسه، لإن الإحساس بالواقع شرط وركن أساسي من أركان عملية التفكير، فإذا فقد هذا الشرط فقد التفكير، والجن من عالم الغيب، فهو واقع غير محسوس بالنسبة للإنسان، فلا يقع الحسّ عليه، فلا يمكن أن يفكر فيه من جهة حسه، بل يفكر فيه من جهة الخبر اليقيني الذي أخبرنا به الله سبحانه وتعالى عن وجودهم وأنواعهم وصفاتهم ومادة خلقهم. وما دام إحساس الإنسان لا يقع على الجن، فلا يمكن أن يراه، قال تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ) فهذا الخبر من الله تعالى تأكيد على حقيقة عدم وقوع الجن والشياطين تحت إحساس الإنسان، فلا تتأتى رؤيتهم, ولا سماع صوتهم، ولا لمسهم، ولا إدراك رائحتهم إن كان لهم رائحة.

 

ولذلك فإن الخطر الوحيد الآتي من قبل الجن والشياطين إنما هو خطر الوسوسة ومحاولات الإغواء والإضلال والإفساد، وهذه يتقيها الإنسان بإدراك واقعها أنها من وسوسة الشيطان، فلا يستجيب لها، ويتقي شرّها بالاستعاذة بالله سبحانه وتعالى، وبتلاوة المعوذتين، وغيرهما من الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وما يزعمونه من أن إنسان تلبّسه جنيٌّ أو جنيَّةٌ ما هو إلا من قبيل الأساطير، التي لا تثبت أمام البحث العقلي الصحيح، والبحث الشرعي الصحيح، والذي يجري عند الإنسان إنما هو خلل في الوظائف النفسية، تُسْهِمُ الخزعبلات والأساطير والأوهام في تعزيز هذه الفكرة الخاطئة، ويروون روايات يستدلون بها على هذا الزعم، فيقولون لقد تكلم على لسانه، وإن سألتهم عن الدليل قالوا: إن صوته قد اختلف، فيستنتجون أن شخصاً آخر يتكلم على لسانه، سيراً على نمط التفكير العجائزي الجاهلي، الذي يسير على نسبة أحداث إلى قوى خفية لأنه لا يرى سبباً عقلياً محسوساً مباشراً لهذا الحدث، فإن تحرّك الباب بتأثير هواء أو فرق ضغط جوي في البيت، تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم، ظانين وواهمين أن الجن والشياطين هم الذين قاموا بهذا.

 

وهذا من مظاهر الانحطاط الفكري، الذي لا يستند على قاعدة فكرية صحيحة، ولا يستخدم الطريقة العقلية في التفكير، فالأصل أن يتوجه عقل الإنسان ليبحث عن السبب الذي أدى إلى تحرك الباب، أو اختلال الوظائف النفسية عند المريض، ولا يعزوَها إلى قوى خفية وأرواح شريرة، فإن الله تعالى خلق الكون بكل ما فيه، وقدّر لكل شيء فيه خواصه، وما على الإنسان إلا أن يطلق العنان لقدراته للبحث في هذا الكون لكشف خواص الأشياء فيه، فينتفع منها، ويجتنب ضررها، فقانون السببية واحد من القوانين التي أقيم عليها هذا الكون، ولعل قانون نيوتن الأول يعبّر عن هذا: يظل الجسم على حالته من الحركة أو السكون ما لم تؤثر عليه قوة تغيّر من هذه الحالة، فلا بد من قوة مادية أثّرت على الباب فتحرك، كتيار هوائي، أو فرق ضغط بين غرف البيت، أو جاذبية لعدم توازن الباب، أو غير ذلك من الاحتمالات الممكنة. وحقيقة ما يزعمون أنه تلبسه جنيٌّ أو جنيّة أنه مرض نفسي، نتيجة صدمة أو موقف شديد التأثير أوقع صاحبه في خلل في الوظائف النفسية، فأطلق العنان للأوهام لكي تأخذ منه مأخذها، وتسيطر عليه، فتفقده صوابه.

 

ويقولون إن الأطباء لا يستطيعون أن يعرفوا هذا المرض أو نوعه أو علاجه، (أي التلبّس من الجن) علماً أن أعتى الأمراض، قديمها وحديثها توصل الطب إلى معرفة أسبابه وعلاجه، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا وقد أنزل معه دواء جهله منكم من جهله وعلمه منكم من علمه). إضافة إلى أن المبتلى بهذا الأمر يقول أشياء ويقوم بأفعال تحتاج إلى حكم شرعي، والأحكام الشرعية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية تعالج أفعال الإنسان، وليس أفعال الجن، فلم يرد في النصوص الشرعية أحكام شرعية متعلقة بأفعال من تلبّسه جنيٌّ أو جنية، مع أن دين الله كامل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ  عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، فليس من المتصور أن يكون هناك فعل أو عمل أو شيء يتعلق بأفعال البشر إلا وله حكم أو محل حكم، لكن هذا الأمر الذي يذكرون، وهو التلبس، ليس له أحكام شرعية ولا محل حكم، فالشريعة كاملة، إذن لا بد أن يكون هناك تفسير آخر لما يصفونه بأنه تلبّس، والصواب أنه مرض نفسي، أو اختلال في الوظائف النفسية، يمكن علاجها في العيادة النفسية، وبقراءة القرآن.

 

وهناك عُقَدٌ أخرى متعلقةٌ بعقدةِ الغيب، كعقدة الخوفِ على الحياة، والخوف على الرزق، والخوف من المستقبل، والخوف من المجهول، والخوف من القضاء والقدر، وسنتاول كل واحدة منها في بحث مستقل بإذن الله تعالى.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة السابعة عشرة

 

 

خامساً: عقدة الذنب:

 

يعرفونها في كتب علم النفس على أنها: (شعور قوي بالذنب يتبع اقتراف فعل طوعاً أو قهراً يثير الشعور بالذنب ويصعب على الفرد التخلص من ذلك الشعور. ذاك الفعل غالباً ما يتعارض مع أخلاقيات ومعتقدات أو تعاليم الفرد الدينية. فمثل هذه العقدة تؤثر كثيراً على حياة الفرد لتكرار الشعور الشديد بالذنب عند اقترافه لأي عمل مشابه قد لا يكون بنفس الحجم. وتتكرر هذه المشاعر من وقت لآخر بدون أن يستطيع الشخص التخلص منها.)

 

وسواء كان الذنب الذي اقترفه الشخص طوعاً أو قهراً فإن العقيدة الإسلامية قد حلّت هذه العقدة، فإن الله سبحانه وتعالى هو التواب، وهو الغفور، بل هو الغفار، يقبل توبة عبده إن تاب إليه واستغفره، بل إن الوقوع في الخطأ والوقوع في الذنب هو صفة لازمة للبشر بوصفهم بشراً، ذلك أن هناك أسباباً عديدة تجعل الإنسان يقع في الخطأ أو المعصية أو الذنب، كالنسيان مثلاً، قال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، ونسيانُ آدمَ عليه السلام أدى به إلى ظلم نفسه، قال تعالى: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فاعترف آدم وزوجه بخطيئتهما، وسألا اللهَ تعالى المغفرة والرحمة، وقد أخبرنا الله سبحانه أن معصيتهما كانت بسبب إغواء الشيطان لهما ووسوسته: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)، وأخبرنا سبحانه أنه عز وجل عَلَمَ آدمَ التوبة فتاب وقبل الله سبحانه التواب الرحيم توبته: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وهذا شأن ربنا سبحانه وتعالى معنا، هذا حديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله ، فيغفر لهم) وورد في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: من عمل حسنة، فله عشر أمثالها. وأزيد، ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها، أو أغفر، ومن عمل قراب الأرض خطيئة، ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة، ومن اقترب إلى شبرا، اقتربت إليه ذراعا، ومن اقترب إلي ذراعا، اقتربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة).

وقال الله سبحانه وتعالى في سورة الزمر: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

 

فالله تعالى يقبل توبةَ عبدِهِ الآيبِ إليه، إذا استغفره وتاب إليه، وندمَ على معصيته، ولعل ما يحسه العاصي أو المذنب من الندم هو ما يصفونه بعقدة الذنب، فإن كان كذلك فهو أمرٌ مطلوب ومحمودٌ، ولكن لا ينبغي للمذنب التائب ألاّ ييأس من رحمة اللهِ وقبوله توبته، فلا يبقى للذنبِ المستغفَر منه تأثير على صاحبه إلا بقدر ما يزيدُه قرباً من الله تعالى.

 

  وورد في الحديث الصحيح عن توبة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأن الله تعالى قد قبلَ توبته: (إن عبدا قتل تسعة و تسعين نفسا، ثم عرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدل على رجل، وفي رواية: راهب ، فأتاه ، فقال: إني قتلت تسعة و تسعين نفسا، فهل لي من توبة؟ قال: بعد قتل تسعة و تسعين نفسا؟ ‍ قال: فانتضى سيفه فقتله به، فأكمل به مائة، ثم عرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدل على رجل [ عالم ]، فأتاه فقال: إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك و بين التوبة ؟ أخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة قرية كذا و كذا، [ فإن بها أناسا يعبدون الله ]، فاعبد ربك [معهم] فيها، [ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء]، قال: فخرج إلى القرية الصالحة، فعرض له أجله في [بعض] الطريق، قال: فاختصمت فيه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب ، قال: فقال إبليس: أنا أولى به، إنه لم يعصني ساعة قط. ‍ قال: فقالت ملائكة الرحمة: إنه خرج تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط - فبعث الله عز وجل ملكا [في صورة آدمي] فاختصموا إليه- قال: فقال: انظروا إلى القريتين كان أقرب إليه فألحقوه بأهلها، [فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي]، [فقاسوه، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد [بشبر] ، فقبضته ملائكة الرحمة [فغفر له])

 

وورد في الحديث الصحيح: (أن الله أشد فرحا بتوبة عبده التائب من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة، عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فقال تحت شجرة، فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته).

 

تبقى مسألة إذا فعل الذنب أو المعصية مكرهاً أو قهراً، دون أن يملك لها رداً أو دفعاً، ففي هذه الحالة ينطبق عليها واقع القضاء والقدر، فإنه مما كتبَه الله سبحانه وتعالى على عبدِهِ لحكمةٍ بالغةٍ أرادها الله سبحانه وتعالى، والموقف هنا هو موقف المؤمنِ بقضاء الله تعالى وقدَرِه، فيستحق الأجر والثواب على صبره على هذا الابتلاء، ويسأل الله تعالى خيره، وأن يقيَه شرّه، وما دام من الله سبحانه وتعالى، ولا يد للمرء نفسِهِ فيه فإنه لا ينبغي له أن يلومَ نفسَهُ، فإن اللوم يقع على المختار للفعل بكامل إرادته، فإن وقع الفعل مخالفاً للأحكام الشرعية، فإن فاعله يستحق اللوم، إلا أن يتوبَ مما فعل مختاراً.

 

فعقيدة القضاء والقدر التي تقتضي التسليم بما يقع من الإنسان أو عليه رغماً عنه، ولا يملك له دفعاً ولا ردّا، فلا يلومنَّ أحدٌ نفسه على عمل وقع منه أو عليه رغماً عنه.

 

ومن أسباب الوقوع في الذنب الغفلة، فقد يغفل المرء عن استحضار المفهوم الصحيح المصاحب لدافع من حاجة عضوية أو مظهر غريزي، فيغلب عليه الدافع، فيرتكب الذنب أو المعصية، ولا ينتبه إلا بعد فوات الأوان، والوقوع في الذنب، وهنا يقتضي على العاقل أن يعوّد نفسه على التفكّر في كل ما يعتزم القيام به، بل عليه أن يتدبّر فيه، والتدبّر يعني التفكيرَ مع النظرِ في العواقبِ، فينظر المرء في عاقبة العمل الذي سيقوم به، أو الإشباع الذي سيلجأ إليه لإشباع الدافع السلوكي، ويربط ذلك بمقياس السلوك لديه، فمقياس السلوك لدى المسلم، حامل العقيدة الإسلامية هو الحكم الشرعي، فلا بد من استحضار الحكم الشرعي للعمل قبل القيام به، والسير بالعمل بحسب الحكم الشرعي، مع ربطه بالغاية التي يسيّر فيها سلوكه على هذه الهيئة أو تلك الكيفية، الغاية التي هي نيل رضوان الله تعالى، فيسيّر عملَه بحسب الحكم الشرعيّ محققاً رضوان الله تعالى. وبالتدبر يدركُ أنه إن سيّر عمله بحسب الحكم الشرعي أنه سيفوز في الآخرة، وينجو من العقاب المستحق على المعصية، فيكون قد ربط عمله بما بعد الحياة الدنيا، وتخلص من عقدة (البعدية، أو البعدينية)، ويكون قد تخلص من عقدة الذنب.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثامنة عشرة

 

 

سادساً: عقدة الموت:

 

يشكل الموت للإنسان تحدياً كبيراً وصارخاً، على اختلاف معتقداته ومفاهيمه عن الحياة، فكل إنسان يدرك أنه سيموت لا محالة.

 

والموت في المنظور الضيق عند كثير من الناس هو نهاية الحياة الدنيا، وانقطاع أمله، وتوقف وجوده، ومحدودية استمتاعه ونيله من شهوات الدنيا.

 

ولكنه في المنظور الحقيقي بداية للحياة الحقيقية للإنسان، هذا ما يقتضيه حل العقدة الكبرى، الحلَّ الصحيح، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، فهو لم يخلق عبثاً، بل إنه خلق لأمر، وسيرجع إلى الله تعالى بعد الموت ليسأله عما فعل في الأمر الذي خلقه لأجله.

 

إنه العبادة، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أجابت هذه الآية عن السؤال الأول من أسئلة العقدة الكبرى: من أين؟ والجواب: الذي خلقكم، وأجابت عن السؤال الثاني: لماذا؟ والجواب: اعبدوا ربكم، وبيّن لنا كيفية عبادته برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم الذي هو معجزة رسوله: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ،  فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ). فإن عجزتم عن الإتيان بمثله فأيقنوا أنه من عند الله، وهو معجزة لمن أتى به، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وبعد هذه الآية بآيات يقول الحق جلّ وعلا: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فهو الذي خلقنا بعد أن لم نكن، ثم يمتنا، ثم يحيينا، ثم نرجع إليه سبحانه، وهو سائلنا عما خلقنا لأجله، وما أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم به.

 

وبعدها بآيات يقول سبحانه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، فهذا بيان لحقيقة الإنسان في الأرض، مستخلفٌ فيها، وقد سخرت له، لينتفع منها، ويسير في كل ذلك بحسب نظام الله تعالى.

 

وهناك في الجنة، حيث خلق آدمُ عليه السلام وزوجه، بدأ التكليف الإلهي، بدأ بالأمر والنهي، (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ) أمرٌ بالسكن في الجنة له ولزوجه، وأمر بالأكل الرغد مما يريدان منها، والنهي عن أكل شجرة معينة، وهنا بدأ التكليف، فإن في مخالفة هذا النهي الظلمَ، يظلمون أنفسهم بمخالفة أمر الله تعالى ونهيه. وهكذا تستمر آيات سورة البقرة ثاني سورة في القرآن الكريم، وأكبر سورة، وأول سورة كبيرة، تستمر في الإجابة عن أسئلة العقدة الكبرى إجابات عقليةً مقنعةً.

 

فالموت ليس نهاية للحياة، وإنما هو فاصل بين حياة زائلة، وحياة دائمة خالدة، ولكن الإنسان مفطورٌ على حبّ الحياة وكراهية الموت، بدافع من غريزة البقاء، التي تدفعه بمظاهرها المختلفة المتعددة لأن يحافظ على بقائه في الدنيا، وأن يرتقي بهذا البقاء لأحسن الدرجات والمراتب، ويمتلك أقصى ما يستطيع من متاع هذه الحياة الدنيا، وبهذه الغريزة وبمظاهرها هذه وغيرها من المظاهر الكثيرة تسير الحياة ويستمر استخلاف الإنسان في الأرض، ويستمر إعمار الأرض، ولكن إعمار الأرض يكون باستمرار الجنس البشري، وهذا يعني الموت للسابق، وانتهاء فترة اختباره وامتحانه، ليمر بالحد الفاصل بين الحياتين، حياته الأولى الزائلة، وحياته الثانية الباقية.

 

فالأصل في الموت أن يكون دافعاً قوياً للإنسان لأن يعمل أكبر قدر ممكن من العمل الصالح قبل أن يأتيه الموت، ولا يكون مثبطاً له، ولا يكون سبباً لعقدة من العقد عنده، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي عن شداد بن أوس: (الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نفسَهُ وعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، والعاجزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَواها وتَمَنَّى على اللهِ) فالعاقل الأريب اللبيب هو الذي يعرفُ أنه مدينٌ، مدينٌ للخالق سبحانه وتعالى بكل شيء، خلقه ورزقه وهداه وأنعم عليه بالزوج والبنين والحفدة، عاجزٌ عن تحقيق شيء من النفع لنفسه إلا بإذن الله، وعاجز عن دفع الضر عن نفسه إلا بإذن الله. أفلا يجب عليه أن يعبد من أعطاه كل هذا؟ ويحمدَه ويشكره؟

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة التاسعة عشرة

 

 

ووقت الموت لكل إنسان معلوم عند الله تعالى، بل هو الذي كتبه على العبيد، وقسّمه بينهم، وجعل لكل واحد منهم أجلاً لا ريب فيه، لا يستقدم ساعةً ولا يستأخر ساعة، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ).


ووقت الموت ومكانه غير معلوم للإنسان، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) وإن في إخفائه دافعاً له لكي يستمر في وظيفته في عمارة الأرض التي استخلف فيها بحسب أوامر الله تعالى ونواهيه، ويستمر في الاستزادة من العمل الصالح، موقناً أنه لن يموت قبل أجله الذي كتبه الله سبحانه وتعالى.


ومن أيقن هذا اليقين، أن الموتَ سُلَّمٌ يصعدُ عليه إلى الجنات العلى، فإنه لا يخافُ الموت، ولا ينثني عن عظائم الأمور، بل يستمر في حياته مرتقياً من عليٍّ إلى أعلى، يمتثل أوامر الله تعالى حتى لو دفع حياته ثمناً لالتزامه بها، فلقد رأينا الصحابة الكرام، ومن تبعهم بإحسان، رأيناهم كيف حملوا الإسلام إلى العالم لا يهابون أحدا دون الله تعالى، ولم يحسبوا حساباً لضرر أو أذى أو موت، ورأيناهم كيف حققوا في زمن قصير نسبياً ما يعجز عن تحقيقه غيرهم، ولقد أثرَ عنهم رضي الله عنهم مقولتهم المشهورة: اطلبوا الموتَ توهبْ لكم الحياة، قالها أبو بكرٍ رضيَ الله عنه، وسار عليها الصحابة والتابعون.


واليوم نرى نفراً من أبناء الأمة الإسلامية واعين مخلصين على عقيدتهم، يرون واقعهم على حقيقته، فيعملون لتغييره، وإقامة شرع الله تعالى بعد أن عطله الناس عقوداً من الزمن، ويقدمون في سبيله الغالي والنفيس، ولا يبالون بما يصيبهم من نصب أو تعب أو لأواءَ أو موت في سبيل تحقيق تلك الغاية، ونرى من أبناء المسلمين من يقدّم نفسه وولده وكل ما يملك دفاعاً عن أرض الإسلام والمسلمين.


أخرج أحمد في مسنده عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلاَ يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ ».


فلا يكون الخوف على الحياة مانعاً من مجيء الموت وحلوله، ولا تكون معرفة حقيقة الموت مؤجلةً للموت، بل إن الموت سيقع في الوقت الذي أراده الله سبحانه وتعالى، والمكان الذي أراده، فعلى الإنسان أن يحلّ العقدة الكبرى الحلّ الصحيح، ويسير في حياته بمقتضى هذا الحل ليعيش سعيداً ويموت سعيداً ويبعث سعيداً ويكون في الآخرة مع الذين سُعِدوا. فيقول الحق حين لزومه، ويفعل الحق حين وجوبه، وينتهي عن المعصية حين وجودها، ولا يخاف في الله لومةَ لائم، ولا يخاف إلا الله تعالى، فإن أجله لا بدّ آتيه في وقته ومكانه، وليجعله كما قلنا سُلّماً يرتقي به إلى الجنات العلى.


(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)


(} كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)


وعليه لا يكون الموت عقدة، ولا يخاف منه، بل يخاف مما بعده من عذاب وشدة وأهوال، ويعمل في حياته لذلك اليوم، آمناً في دنياه، مطمئناً إلى صحة سيره، لا يتسرب لنفسه قلقٌ أو ريبٌ أو شك.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة العشرون

 

 

سابعاً: عقدة الخوف على الرزق

 

من أهم العقد التي تواجه الإنسان في حياته خوفه على رزقه، فهو يخاف من الفقر، ويخاف في قابل الأيام أن يقل الرزق الذي يأتيه، ويخاف أن يفقد عمله ووظيفته خوفاً من فقدان رزقه كما يظن، بل إنه مستعد لأن يخالف أحكام شرع ربه ويقع في الحرام بحجة أنه لا يريد سد باب الرزق الذي يأتيه منه، ويخاف من قول الحق حتى لا يفقد عمله ووظيفته، ظانّاً أنه عمله هو سبب رزقه.

 

وهذه عقدة تجعل الإنسان يعيش في قلق دائم، ويقضي حياته وهو في عمله يتوجّس خيفةً أن يطرأ أي طارئ يجعله يفقد عمله، أو يخشى أن يفصَلَ من عمله، أو يطرد منه، فيظن أن أبواب الرزق قد سُدّت في وجهه.

 

ومع ذلك فإنك لو سألت أي مسلم: من الذي يرزقك؟ لكان الجواب فوراً: الله، وإن راجعته في الأمر، وسألته لماذا تخاف على رزقك إذن؟ فيكون جوابه فوراً أيضاً: لكن الأخذ بالأسباب واجب، فهو يظن أنه بخوفه وجبنه ونكوصه عن قول الحق، وعدم حرصه على التزام أوامر الله تعالى يعدُّها من قبيل الأخذ بالأسباب التي تحفظ عليه رزقه، وينسى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلاَ يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ).

 

بل إنه يعمل ويخطط طوال حياته ليؤمن لأولاده مستقبلاً مناسباً في ظنه، ليتمكن من إحسان تربيتهم وإطعامهم وإحضار ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب، وليعلمهم في المدارس ثم في الجامعات، يخطط لرزق أولاده من بعده أيضاً، وينسى قول الله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا).

 

لقد اعتنى الإسلام بمسألة الرزق عناية خاصة، واعتنى بحلها حلاّ شافياً يوجِدُ الراحةَ والطمأنينة لمن يأخذ بهذا الحل، وليس للمسلم خيار آخر، فعليه أن يأخذ هذا الحل ما دام قد أخذ أساسه، الحلَّ العقلي الصحيح للعقدة الكبرى، يقول الحق جل وعلا: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)،فالله هو الذي خلقنا ورزقنا ويميتنا ويحيينا، وهذا هو حل العقدة الكبرى، ولقد أضاف إليه سبحانه هنا حل عقدة الرزق، نظراً لأهميتها في نفوس الناس وسلوكاتهم ومواقفهم، ولأهميتها عند ضربوا لها أمثالاً للتعبير عن ذلك، فقالوا: (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق)، ظانين أنه يمكن لأحد غير الله تعالى أن يقطع رزق أحد من البشر!!

 

 ويتلخص حل الإسلام لعقدة الرزق في أن سبب الرزق الوحيد هو تقدير الله سبحانه وإرادته، وليس هناك من سبب آخر للرزق، هذا قول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)، وكذلك قوله: (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ  رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فكل دابة تدِبُّ على هذه الأرض رزقُها على الله تعالى، وليس على غيره، وليس عليها هي، وليس بجهدها ولا بعملها. واقرأ قول الله تعالى: (وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقوله تعالى: (اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ)، وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) وقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا). والله سبحانه وتعالى أيضاً فضّلَ بعض الناس على بعض في الرزق: (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ  اللّهِ يَجْحَدُونَ)، وأخبرنا سبحانه وتعالى أنه هو الذي قسم بين الناس معيشتهم، ورفع بعضَهم فوق بعضٍ درجات، ليتخذَ بعضُهم بعضاً سُخرياً، أي لكي يعمل بعض الناس عند بعض ويأخذون أجرهم منهم.

 

كما أنه سبحانه نفى أن يكون هناك أحدٌ غيرُهُ يملك أن يرزقَ أحداً، يقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن  دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ  وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فعليه فمن أراد أن يطلب الرزق فليطلبه من الله سبحانه وحده، لأنه هو المالك الحقيقي له، من جهة الخلق، ومن جهة التوزيع والتقدير، بقدرته المطلقة، وبعلمه المطلق، وبحكمته المطلقة، (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ  لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ  خَبِيرٌ بَصِيرٌ).

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الحادية والعشرون

 

 

ويتوهّم كثير من الناس بظنهم أن ما يحصلونه من رزق إنما هو بتعبهم وعملهم، وتفكيرهم وتخطيطهم وحسن تدبيرهم، حتى قال قائلهم: إنما أوتيته على علم عندي، كما قال قارون، فخسف الله به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين، حتى إن الذين تمنّوا مكانه ممن يريدون الحياة الدنيا قالوا: ويكأنَّ اللهَ يبسط الرزقَ لمن يشاءُ ويقدر، أيقنوا بعد خسف قارون بداره وماله أن الله وحده يبسط الرزق لمن يشاء من الناس، ويضيق على من يشاء من الناس، لحكمة بليغة يعلمها سبحانه.

 

فلا بد من اليقين أن الرازق الوحيد هوالله تعالى، وأنه لا أحد يملك لأحد رزقاً، وسبب الرزق الوحيد هو إرادة الله وتقديره، وليس العمل أو الإرث، وليس التفكير ولا التخطيط ولا حسن التدبير، وما يُشاهَد من أحوال يأتي فيها الرزق لا تتعدى كونَها أحوالاً يرزق الله سبحانه وتعالى الناس عن طريقها، وليست هي سبب الرزق، فلا يعني أن من فقد عمله فقد رزقه، بل إنه سبحانه وتعالى هو الرزاق لعباده، يرزقهم بالكيفية التي يريدها ويهيئها لهم.

 

وكذلك فإن الله تعالى لم يربط الرزق بأي سبب غير إرادته وتقديره، لم يربطها بإيمان أو كفر، ولا بتقوى أو فجور، ولا بجد واجتهاد أو كسل، ولا بغير ذلك، يقول الحق سبحانه وتعالى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ  جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ، وَمَنْ أَرَادَ  الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ  سَعْيُهُم مَّشْكُورًا، كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا، انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا  بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فإن الله سبحانه سيؤتيه ما قدّره له منها، وكذلك سيؤتي من أراد الآخرة وسعى لها سعيها، سيؤتيه ما قدّره له منها، والله تعالى هؤلاء وهؤلاء من عطائه، والله تعالى فضل بعض الناس على بعض، ولكن التفضيل الأكبر إنما هو في الآخرة.

 

ولكن الله تعالى وعدَ أهل طاعته وتقواه أن ييسّرَ لهم أمورَ حياتهم، قال سبحانه وتعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ  مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، فالمؤمن التقي يهيء له الله سبحانه وتعالى المخرجَ من كلّ ضيق، والفرجَ من كل شدةٍ، ويجعلُ له رزقَه من حيثُ لا يحتسبُ، أي من حيثُ لا يتوقعُ أو ينتظرُ، بل الله تعالى يمنّ عليه بالفرجِ من حيثُ يريدُ اللهُ وحدَه، وليس من حيثُ يريدُ المؤمنُ التقيُّ نفسه.

 

فالأصل في من ارتضى الحل الصحيح للعقدة الكبرى، ألا يقلقَ على رزقه، وألاّ يشكّلَ الخوف على الرزق عندَه عقدةً تُقِضُّ مضجعَه، وتؤرِّقُ ليله ونهارَه، بل عليه أن يقبلَ ويرضى بما قسمَ له، فبالقناعة بالمقسوم تنحلُّ عقدة الخوفِ على الرزقِ فيرضى الإنسانُ بما قُسِمَ له، وباليقين بأن اللهَ تعالى هو الرزاق تنحلُّ عقدةُ الخوفِ على الرزقِ في المستقبلِ، فهو وإن كان لا يعلمُ ماذا سيرزقُ مستقبلاً لكن الله تعالى واجبَ الوجود يعلمُ ماذا سيرزق كل واحدٍ من عبيدِهِ، لأنه تعالى جعلَ هذا الأمرَ من الغيب، الذي استأثر به لنفسه، قال سبحانه وتعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا).

 

والمؤمن التقيُّ يوقنُ أن الرزقَ الحقيقيَّ؛ الذي يستحقُّ أن يضحّيَ من أجلِه بكلِّ شيء هو رزق الآخرة، وليس رزقَ الدنيا،  (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

 

ويقع كثير من الناس في أخطاء أخرى متعلقة بالرزق، كظن بعضهم أن الرزق هو المال فقط، أو أن الرزق هو ما يكسبه بعرقه، أو أنه يطلب رزقاً يحقق له مستوى معيناً من العيش، وكأنه يشترط على الله تعالى كيفية رزقه ومقداره. حقاً إن الإنسان لا يدري ماذا يريد!! بل إن الإسلام قد أجاب الناس عن هذه الأسئلة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِيْ جَسَدِهِ، آمِناً فِيْ سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوْتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيْزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيْرِهَا) فماذا يحتاجُ الإنسانَ أكثرَ من الأمنِ والعافيةِ في بدنِه، وقوتِ يومِهِ؟ وورد عنه، عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلمٌ عن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر. قال: "يقول ابن آدم: مالي. مالي. ( قال ) وهل لك، يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟)، فمهما امتلك الإنسان من المال، أو من متاع الدنيا، فإنه ليس له منه إلا ثلاثة أشياء: ما يأكله، وما يلبسه، وما يتصدق به. أما ما عدا ذلك مما يبقى معه فإنه ليس له.

 

وبناء على هذا الحل، ينطلق الإنسان في حياته لا يخشى على رزقه أحداً غيرَ الله، فيجمع أمرَه ويحزمَه ليجعلَ كل حياته بكلياتها وجزئياتها خالصةً للهِ تعالى، يعمل ما أمرَهُ الله تعالى به، وينتهي عما نهاه، مهما كلّفهُ هذا الأمر، فإن أجلَه بيد اللهِ، ولن يموتَ قبلَ أجلِهِ، ورزقَهُ بيدِ الله وحدَهُ، فلا يملك أحدٌ أن يُنقِصَهُ أو يقطعَهُ، فيمضي في حياته آمناً مطمئناً راضياً قانعاً.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثانية والعشرون

 

 

ثامناً:عقدة الخوف من القضاء والقدر

 

يخاف الناس من المستقبل كثيراً، وهو كما ذكرنا في بحث عقدة الغيب أمرٌ فطريٌّ غريزيٌّ، بدافع من غريزة البقاء، فيخشى من وجود أيِّ شيءٍ مستقبليٍّ يهدد بقاءه، أو يُنْقِصُهُ، أو ينغّصُ عليه عيشَهُ، أو يفقده بعض القدرات والخواص، أو بعض الإمكانات التي وهبها الله سبحانه وتعالى له، حتى إن الخوفَ على البقاء عند الإنسان لا يتوقفُ على بقائه هو وحدَه، بل يتعداه ليخافَ على بقاء نوعِه، فيخافُ على أولادِهِ، ويحسب الإنسانُ أنه بجهده وتفكيره وتدبيره يحافظ على بقائه، وعلى بقاء نوعه، وتجدُ أيضاً كثيراً من الناس من يدّخر من ماله لغير حاجة، وإن سألته كان جوابه: خوفاً من عثراتِ الزمان، أو من عاديات الزمن، فلا يدري الإنسانُ ماذا يصيبه في مستقبل الأيام.

 

ويبقى هذا الهاجس يطاردُ صاحبَ هذا التفكير، ومن الواضحِ أن لديه عقدةَ الخوفِ من البلاء والمصائبِ والطوارئِ ... وغيرِها من التعبيرات التي يستخدمها الناس، حتى جرتْ لدى كثيرٍ منهم مجرى الأمثال، يرددونها في كل مناسبة.

 

ومن الواضح كذلكَ أن صاحبَ هذا التفكيرِ لم يَحُلَّ العقدةَ الكبرى عنده، أو توقَّفَ عند حَلِّها ولم يقمْ بما يستلزِمُ لأخذِ حلِّ باقي العقدِ من حلِّ العقدة الكبرى، العقيدة الإسلامية.

 

وقد تولّت العقيدةُ الإسلامية حلَّ هذه العقدةِ عند معتنقِها، بحيث جعلته يطمئنُّ إلى مستقبلِهِ كما يطمئنُّ إلى حاضرِهِ وأكثرَ، فأعلمَتْهُ أولاً أنّه لا تقع أيةُ مصيبةٍ في الأرضِ ولا في نفس الإنسان إلا بإذن الله: (مَا أَصَابَ  مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ  مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ  لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)

 

فكلُّ مصيبة تقعُ على الإنسان أو حولَه إنما هي في علمِ اللهِ تعالى وبإرادتِه من قبلِ أنْ تقعَ، وهذه من أيسرِ الأمور على الله تعالى، وكل شيءٍ عليه –سبحانه- يسير، والنتيجةُ أنّ على الإنسانِ ألاَّ يأسَى على شيءٍ فاته وكانَ يتوقعُ حصولَه عليه، وألاّ يفرحَ بشيءٍ أصابَه، أو أنعمَ اللهُ به عليه.

 

ويقولُ سبحانَه وتعالى: (مَا أَصَابَ مِن  مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فهنا حصرٌ لكلِّ ما يقعُ على الإنسانِ أو حولَه، أنّه بإذن الله وإرادتِهِ وتقديرِهِ، وعلى المؤمنِ أن يؤمنَ بهذا ويسلّمَ بما يُقضَى عليه، والله تعالى يهدي قلوبَ عبادِهِ للرضا والتسليم والطمأنينة بشرطِ الإيمان، وتخبرُ الآية عن علمِ الله المطلق بكل شيءٍ، فهو خالقُ كلِّ شيء، ومقدّر كلِّ شيء.

 

ونظرة عميقة مستنيرة لأفعال الإنسان تُرينا أنه أفعاله تقع في دائرتين:

 

الأولى: دائرة يسيطر عليها، فتقع أفعالُه فيها بمحض اختيارِه وإرادته، فهو يقوم ويقعد، وينام ويصحو، ويأكل ويشرب، ويختار ملابسه، ويخرجُ من بيتِه ويعودُ إليه، ويعمل عملاً ليكسب قوت يومه، فهو يحاسَبُ على فعل يقعُ منه في هذه الدائرة، ويتحمل نتائج أفعالِه فيها.

 

والثانية: دائرة هي تسيطر عليه، فتقعُ الأفعالُ ضمنَ هذه الدائرة من الإنسانِ أو عليه رغماً عنه، ولا يملك لها دفعاً ولا ردّاً، ولا يستطيع السيطرةَ عليها ولا على نتائجها، فهو في هذه الحالة لا يحاسب على هذه الأفعال، فلا يثابُ عليها، ولا يعاقبُ عليها. يقول سبحانه وتعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وقال سبحانه وتعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) فهو سبحانه يبتلي عبادَه بما شاءَ من أنواع البلاءِ، لحكمةٍ يعلمُها.

 

وقد أخبرنا الله سبحانَه وتعالى أن ما يقعُ في هذه الدائرة، أي الثانية، تكون فيها تلك الأفعال:

 

-       عقوبةً، أي تقعُ الأفعالُ في هذه الدائرةِ على الإنسانِ عقوبةً له على فعلٍ فعله، ومن أرادَ اللهُ سبحانه وتعالى به الخيرَ عجّلَ له في العقوبة، قال سبحانه وتعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)، وكذلك روى ابن ماجه وأحمد من حديث ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الرجلَ لَيُحْرَمُ الرزقَ بخطيئةٍ يَعْمَلُهَا)، فإن بعضاً مما يصيبُ الإنسانُ من البلاءِ رغماً عنه، إنما هو عقوبةٌ على بعضِ ما فعله، والله تعالى يعفو عن كثير مما يفعله الإنسان، فهو المنعم المتفضل.

 

-         والبلاء تارة يكون لمحو السيئات، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما يُصيبُ المسلمَ من هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا وَصَبٍ ولا نَصَبٍ ولا أذًى؛ حتى الشوكةُ يُشَاكُهَا إلا كَفَّرَ اللهُ بَهَا مِنْ خَطَايَاهُ) رواه مسلم. وروى مسلمٌ أيضاً عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَثَلُ المؤمنِ كَمَثَلِ الزرعِ. لا تزال الريحُ تُمِيْلُهُ. ولا يزال المؤمنُ يُصِيبُهُ البلاءُ)، ولكنّ المؤمنَ مع استمرارِ وقوعِ البلاءِ به يبقى ثابتاً لا يتزحزح من مكانِه، وإن أمالتْه الريحُ، وذلك بسبب إيمانه.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثالثة والعشرون

 

 

نواصل حديثنا في عقدة الخوف من القضاء والقدر

 

-       ويكون لرفع الدرجات كما هو الحال في ابتلاء الله لأنبيائه، وعبادِهِ الصالحين، كما في الحديث الشريف: (أشدُّ الناسِ بَلاءً الأنبياءُ ثُمَّ الأمثلُ فالأمثلُ... فما يَبْرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يتركَهُ يمشيْ على الأرضِ وما عليه خَطيئةٌ) رواه البخاري.

 

-       ويكون تارة لتمييز المؤمنين عن المنافقين، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).

 

فكل ما يصيبُ المؤمنُ، الذي ارتضى الحلَّ الصحيحَ للعقدةِ الكبرى، الذي ارتضى العقيدةَ الإسلاميةَ حلاّ لعقدته الكبرى، كل ما يصيبُه خيرٌ له، وفي هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَجَباً لأمرِ المؤمنِ، إِنَّ أمْرَهَ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ؛ إِنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً له، وَإِنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ). فإنْ كانَ ما أصابَه رغماً عنه خيراً أدركَ أنَّ هذا الخيرَ من اللهِ تعالى، ولم يَعْزُهُ إلى غيرِه سبحانه، وإن كانَ ما أصابه شَرّاً صَبَرَ، ليقينِهِ بعلمِ الله سبحانه وتدبيرِهِ لهذا الأمرِ له، مريداً له الخيرَ، فيرضى به ويصبرُ.

 

إذن فالمؤمنُ يوطّنُ نفسَهُ على الصبرِ، ويعوّدُها عليه، ولا يخافُ أن يبتَلَى في قابلِ الأيامُ بما لا يعلمُه هو ولا يخطرُ على بالِهِ، فإنَّ الحكيمَ الخبيرَ سبحانه هو الذي يعلمُ أين الخيرُ، والبشرُ كلُّهم لا يعلمونَ أينَ الخيرُ.

 

قال الله سبحانَه وتعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ  وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)، فإنّ البلاءَ في الأموالِ والأنفسِ حاصلٌ، وكذلكَ البلاءُ بسماعِ الأذى من أهل الكتاب ومن المشركين، والمطلوب من المؤمن الصبرُ والتقوى.

 

ولقد أوصى لقمانُ ولدَهُ بالصبر على المصيبة، فقال تعالى ناقلاً عنه: (} يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)، والصبرُ على المصيبةِ من عزائمِ الأمورِ، ويتصفُ به أصحاب العزائمِ القوية.

 

ومدَحَ الله عبادَه المخبتين، ووعدَهم بالبشرى، ومن صفاتهم أنهم يصبرون على ما أصابهم، قال سبحانه: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ  {34} الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ  قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا  رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).

 

وفي موقفِ الإيمان بالقضاء والقدر والتسليم به، والصبر عليه، يوجّهُ الله عبادَهُ لما عليهم أن يفعلوه تُجاهَ البلاء فيقول سبحانه وتعالى:  (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ  بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ  وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ  ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ  ، أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ  هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، فقد ذكرَ سبحانَه أنواعاً من البلاء من الخوف والجوع والنقص في الأموالِ والنقص في الأنفس، والنقصِ في الثمرات، وعلى المسلم الصبر، والصابرُ له البشارةُ، وهؤلاءِ الصابرونَ يتذكرون حين المصيبة ويرددون القول: (إنا لله وإنا إليه راجعون) يربطون موقفهم وحل هذه العقدة بحل العقدة الكبرى، أننا لله، وهو آمرنا وناهينا، ويفعل بنا ما يشاءُ ثم نعودُ إليه بعد انتهاء أجلنا هنا. وهؤلاء المتصفون بهذه الصفات من الصبر وترديد إنا لله وإنا إليه راجعون عليهم صلوات من ربهم ورحمة، ووصفهم الله تعالى بأنهم مهتدون.

 

وحسن التخطيطِ والتدبيرِ للمستقبل يكونُ باغتنامِ ما أوتيَهُ الإنسانُ من علمٍ وقدراتٍ ونعمٍ وصحةٍ وعافيةٍ قبل تحوّلِ ذلك عنه، أو تحوّلِ شيءٍ منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)، هذا الحلُّ لما يتخوّفُ الإنسانُ وقوعَه في مستقبلِهِ، فإنه لا شكَّ سيصيبُهُ الهرمُ وسيقعِدُهُ عن كثيرٍ مما كان يقومُ به أيامَ شبابِهِ، فليغتنمْ شبابَهُ قبلَ هرمِهِ، وليعمل فيه صالحاً. وأنه ليس بعدَ الصحةِ إلا السَّقَمُ والمرضُ، والمرضُ يقعِدُ الإنسانَ عن كثيرٍ مما كان يقومُ به أيامَ شبابِهِ، فليتغتنمْ صحتَه قبلَ سَقَمِهِ، وليعملْ صالحاً. وأنه ليس بعد الغنى إلا الفقرُ، فليغتنم المرءُ غِناهُ وليعملْ صالحاً، قبل أن يتحوّل الغنى إلى فقرٍ فيندمَ الإنسانُ على ما مضى من زمانه، حينَ لاتَ مندَمٍ، وليغتنمْ ما يمرُّ به من فراغٍ، ولا يقضيه في مجرد التسلية لقضاء الوقت، فإنّه ستأتيه أيامُ انشغالٍ يندمُ فيها على كل دقيقةٍ فاتته دون عملٍ صالحٍ، ولاتَ حينَ مندَم. وليتغتنم حياتَه ويعملْ فيها صالحاً قبل موتِهِ فينقطعَ العملُ، ولاتَ حينَ مندَم.

 

هذا موقف المؤمنِ التقيِّ الذي ارتضى حل العقدةِ الكبرى الحلَّ الصحيح، المتمثلَ في العقيدة الإسلامية، فلا يخافُ مستقبلاً، فهو بيد الله، ولا يخافُ ضُرَّا يصيبُه، فإنَّ الله يعلمُه، ولا يخافُ أذى، فإنه بإذن الله، وهو له بابُ أجرٍ، وليس بابَ خوف، وهو بابُ دافعٍ له ليستمرَّ في التقوى والعمل الصالحِ، وليسَ بابَ تثبيطٍ وقلقٍ واضطرابٍ وهمٍّ وحَزَن.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...